محاور ثلاثة وبنية تحتية
إبحار نقدي
بقلم / محمد البنا
في نص
" باب مغلق ونوافذ مفتوحة"
للقاصة / أمل البنا
........
الوحدة / الفقد / الافتقاد..ثلاثة محاور اعتمدتها القاصة كبنية لنصها النفسي بامتياز.
نصٌ جمع بين الهلاوس البصرية والسمعية ليشكلا معًا مشهديةٍ سوداء في ليلةٍ حالكة، بين جدرانٍ متصدعة، وبابٍ مفتوحٍ ذي اتجاهٍ واحد، ألا وهو اتجاه الخروج، وياله من خروج، إنه خروجٌ أبدي، خروجٌ بلا عودة، فلا يترك خلفه أثرًا إلا الوحدة، وحدة نفسٍ معتمة تقتات الوهم، وتحمله جنينًا بين جنبيها، وتتجاوز الواقع فتصنع من الوهم خلقًا تفتقده، فتنسجه ماثلًا أمامها، تحاوره ويحاورها حديثًا جديدًا متجددا، وليس اجترار ذكرى فقط.
مشهد شديد القتامة يشع نوره سوادًا فوق سواد، حتى الشمعة الوحيدة أطفأتها.
مشهد يتحسسه المتلقي بيديه وعينيه ومخيلته وروحه.
بابٌ مفتوح ونوافذ مغلقة..إن فُتحت يعبرها الموت في كلا الاتجاهين...الداخل أزيز طائرات تقصف، وقنابل تدوي، ودمار يعقبه دمار، والخارج قتلى بلا ذنب، سيان طفلًا أو صغار قطط..إنها قسوة الفقد ومرارتها، تلك المعادلة الغرائبية..مات ولدي فليموتون هم أيضًا بلا ذنب كما مات خالد بلا ذنب، معادلة اليأس وعدمية الأمل في انبثاق فجر.
نصٌ جمع الشتات على البقايا، شتات ما تبقى من نفسٍ محطمة، وما تبقى إلا لوثة وبعض وعي، فصنع من الوهم توهما..جسدًا يتنفس ويتحرك، ومن بقايا الذكرى أحاديثا، ليشكلا معًا واقعًا متوهمًا، مسموعًا ومرئيا، حيث انصهر الوعي واللاوعي في بوتقةٍ حوافها وحدة، وقاعها فقد، وجدرانها افتقاد.
ما أروعك يا أمل، وأنت ترسمين بريشةٍ سوداء، ولونٍ أسود جدارية على لوحةٍ سوداء، فنرى ونسمع ونحس.
محمد البنا...٢٢سبتمبر ٢٠٢٠
... ...... ..
النص
......
بابٌ مفتوح ونوافذ مغلقة
فى لحظات خِلته ينهض من جوارى. ظل متسمراً مكانه لحظات.. كان الظلام حائلاً لأن يدرك أننى قد انتبهت إليه، غير أنه فاجأنى بقوله: سأرحل الآن
_.. فى هذا الوقت من الليل!!.. هل تَعدنى بالعودة سريعاً؟
_ ربما تجديننى غداً جالساً فوق المقعد الخشبى بين الشجرتين
_ أنا أمقت تلك اللعبة التى تجيدها فى إظهار مهارات البزوغ والاختباء كيفما تريد.. لمَ لاتنتفض لآلامى وتنتشل الفراغ من قلبى. بل لمَ لم تعد الحياة كسابق عهدها، وتعزف كما حدث بالماضى فى الحجرة المجاورة ألحاننا
_ شوبرت.. كنتِ تفضلين سماعه
_..ربما كانت هناك الكثير من الألحان التى لم تُعيدها على أذنى، والتى لم يبق منها سوى أصداءٌ تملأ البيت والغرفة وحشة
_ ياللشيطان!، ياللشيطان!، لمَ تنسين أنكِ قد بعتِ أثاث تلك الغرفة وأغلقتها إلى الأبد؟!
_ كذب، فأنا لم أغلقها إلا خشية انهيار الجدار المتصدع بها
_ سأمضى الآن، فياله من حديث قبل الرحيل
_ حسناً.لا تغضب أرجوك، دعنى على الأقل أودعك وأمضى معك إلى الباب
_ الظلام حالك ولا أثر للضوء كما تعرفين
_ دعنى أبسط يدى وأصل إليك، فربما يساعدنى هذا لاحتمال لحظات انتظارى لك
_ ..هل لديكِ كشافٌ أو شمعةٌ نضيئها؟
_ لا. دعنى أتعلق بكتفك..هكذا، ونرحل ونحن نتلمس الأشياء و نتجاوز العثرات تحت أقدامنا
_ ما تقومين به لهو عملٍ جنونى .
_ وكيف ترانا الآن؟!، وقد يظن من يسمعنا أننا شبحان يتناجيان، وربما يتواعدان فى ليلة باردة لا قمر بها
_ كيفما تريدين.. يالشعركِ الأشعث !!
_ ها قد بدأت سخريتك منى
_ لا، أقسم لكِ، غير أن جدائلك جافة ويبدو أنكِ لم تمشطيها منذ فترة طويلة
_ تعلم أن الماء مقطوع، وأنه من الصعب الحصول حتى على القليل منه، وقد أخبرتك بهذا من قبل غير أنك دائما تُجيد استفزازى
_ حقا. فالدهشة والظلام أحياناً تنسيانكِ الملاحظات المكررة
_.. نحن نجتاز باب الحجرة الآن.. أتَذَكَّر العناق والقبلات التى أمطر زوجى وجهى بها فى تلك الليلة التى سبقت الغارة الجوية على بلدتنا.. كنتُ على يقين بأن هناك شيئاً ما سوف يحدث، وأننا نقتنص لحظات قد لا يهبها القدر مرة أخرى.
_ أوه !!، قدمى
_ ماذا بكَ ؟
_ يبدو أننى قد وطأت شيئاً مكسوراً
_ معذرة، فقد أهملتُ في جمع بعض الأشياء المحطمة.. هل ما زالت تؤلمك ؟
_ التَوتْ قليلاً، غير أننى يمكننى مواصلة السير
_ أتذكر خالد ابن السيدة فادية الذى حضرنا عقيقته منذ سبعة أعوام ؟
_ نعم.
_ قالوا أنهم عثروا على رفات طفل وفى قدميه حذاء رجل
_ أكان هو ؟
_ ربما، فقد كان محباً لكل متعلقات والده رحِمةُ الله.
_ ياللمسكين.. أرجو أن لا تشغلكِ الأحزان عن أحوالك
_ أمسك يدى جيداً
_ ماذا هناك ؟
_ يبدو أن ماء المطر تسرب مجدداً من السقف، وقدمى قد غاصت فى بركةٍ منه، ألا تشعر بها ؟
_ ربما لأننى أرتدى حذاء برقبةٍ طويلة
_ حتى وإن كنت تلبس حذاءً يحميك، فإن صوت الماء واضح وكان عليكَ أن تنبهنى
_ يشغلنى الحديث معكِ أكثر من أى شىء آخر
_ حتى وإن كنتُ أتعرض للخطر ؟!
_ اقبلى عذرى ولا تلومينى، فأنا لا أُجيدُ حقاً الاعتذار ..
_ ..المطر يأتى رغماً عن طائراتهم التى قصفت محطات المياه. يريدون قتلنا، و رغم هذا تجود السماء بالماء وتوزعه على الأرض من جديد. ياللقطة الملعونة !!
_ ماذا جرى ؟
_ أصابت قدمى وهى تقفز بعيداً عن بركة المياه تلك.
_ هل تأذيتِ ؟
_ قليلاً. فربما قد بَدَأَتْ تتحين الفرص لتنتقم منى
_ تنتقم منكِ !، لماذا ؟
_ لأننى ألقيت بصغارها يوماً. لم أحتمل كل هذا العدد وهذا الضجيج، فأخذت بإلتقاطهم وهم يتشبثون بأظافرهم الناعمة بالوسادة، وألقيت بهم من النافذة، بينما كانت تنظر لى بعين الأم الحاقدة التى غيبت عنها أولادها إلى الأبد؛ لتموء إلى جوار تلك النافذة لأسابيع وكأنها تنتظر أن يستجيبوا لصوتها
_ يالقسوتكِ !
_ كيف أشرح لكَ هذا ؟، فأنا لا أحتمل الزيادات المفرطة فى أى شىء
_ وهل كانوا أشياءً ؟!
_ بالنسبة لى. فهل هذا يريحك .؟
_ إنها مخلوقات أليفة
_ نعم. كائنات تتكاثر وتعيش
_ مثلك !!
_ ماذا تعنى بتلك المقارنة ؟
_أزعجتكِ، كما أزعجتكِ أصواتهم وأعدادهم التى قد تتضاعف بعد ذلك ؟
_ نعم .
_ ألا ترين أنكِ قد عاديتِ الطبيعة وقانونها وقمتِ بدور من بيده أمر كل شىء
_ قطة واحدة كان لا بأس بها. ثم أننى إنسانة لها أفكارها الخاصة التى قد تخطىء.
_ هل كنتِ ستسعين إلى تكرار هذا إذا ما أنجبت قطتك مرة أخرى ؟
_ .. ربما
_ ليست هذه بإجابة واضحة
_ .. نعم كنتُ سأكرر هذا
_ رغم أنكِ تعترفين بأنه قد يكون خطأً
_ أجل، فقد أخبرتك أننى لا أحتمل الزيادات والإفراط فى أى شىء
_ وهل هذا يُعد مبررا ًلأن يقضى عِرقٌ بشرى على آخر، إذا كانت تلك الفكرة هى السائدة
_ الأمر هنا يختلف، وأنتَ تعلم أنه يختلف تماماً
_ ليس كثيراً، فالأقوى فى كلا الحالتين هو من يملك النهايات. غير أن الإنسان يمكنه الدفاع عن نفسه، وربما يجد من يطالبون بحمايته، بل حتى قد يجد من يقتص له . بينما هذه القطة البائسة، كنتِ أنتِ الشاهدة الوحيدة على نياط قلبها الممزقة، فليس هناك من يدافع عنها، أو حتى قد يقاضيكِ على قتل صغارها .
_.. يبدو أنك تكرهنى الآن.. أشعر بهذا رغم الظلام الذى يمحو كل شىء
_ ليس لى أن أكرهك.. يبدو أننا قد وصلنا الباب
_ إنه يعاند الفتح دوماً معى
_ دعى الأمر لى.. ها ، قد فُتح
_ حتى فى الظلام تمتلك قدراتٍ خاصة
_ ليست كما تظنين .
_ أمسك يدى جيدا، وعدنى أنك ستسرع بالعودة إلىَّ
_ اعتنى بنفسك جيداً يا فادية ...
تُراقب الفضاء اللانهائى. بينما قذائف الطائرات تُلقى ظلالاً فوق الأطلال حوالها.
أمل البنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق