نجلاء عطية..
اللحظة والمعالجة القصصية
رؤية تحليلية لنص ..
سراب واحد لايكفى..
يقدمها /الشاعر والناقد ..
سامى ناصف..
...................
إن فن القصة القصيرة هو من أعمق الفنون الأدبية الحديثة.
وفن القصة القصيرة لا يمهره إلا من امتلك أدوات خاصة من أهمها توظيف المفردة ومنحها حللا من الإبداع ٬ ونسج التراكيب بحرفية الصائغ الذى يجعل من الجمادات ما يبهر القلب ويسبى العين .
وكذلك من أهم الأدوات الفنية للقصة القصيرة ..
الحبكة..
التكثيف ..
التركيز ..
استعمال اللغة المجازية بكثرة
وتوظيف الرمز ليلبس العمل القصصى هالة من الوهج الإبداعى..
#نجلاء عطية ٬والدلالة الرمزية بعنوان النص..
(سراب واحد لا يكفى)
السراب ..
له دلالة فى ذاكرة المعاجم :الخيال المخادع.
إلا أن الكاتبة استدعت من هذا المعنى ما يخدم العمل القصصى هنا ..ولم تتوقف عند هذا الحد لتستدعى وصفا لذلك الموصوف (سراب)لايكفى ولا اثنين ولا ثلاثة فقالت (سراب واحد )وذلك من خلال استدعاء حرف النفى (لا)ليسمح لنا بمد البصر عبر تعارج الفعل المضارع (لا يكفى)..
*نجلاء مهاراتها فى استدعاء حروف اللغة العربية على اختلاف مسمياتها..منها على سبيل المثال لا الحصر..
فمن المعلوم أن الحروف هى التى تقوم بربط الأحداث وتدفع الحركة إلى التفاعل الموجى المتتابع ليدفع بالعمل القصصي إلى ساحة الحراك الانفعالى ٬مرة فى جلبة ٬وأخرى فى همس هامس ليستقيم الخط الدرامى داخل العمل القصصي .
وقصة (سراب واحد لا يكفى) خير دليل لذلك ...
أمثلة...
استدعاء حرف الجر (فى)فى عموم النص مثل قولها (فى)ذات الموعد ليدل على الظرفية الزمانية وأخرى على الظرفية المكانية لإلباس الزمن ثوب الحياة العاقلة..
واستعمالها حرف (لكن) ليفيد الاستدراك ليلفت الانتباه نحو الحدث ونقيضه.
واستعمالها حرف (الواو) فى عموم النص للجمع بين المتضايفات..
والمتناقضات بمهارة تجعل من النص القصصى مرتبطا بعلائق ووشائج جعلت من النص رغم طوله لوحة تشف جمالا آلقا..
وتمارس الكاتبة باستدعاء تنويعي لحروف الجرمثل حرف الجر(على)
وعلى سبيل المثال قولها..
وماتت(على)شفتيها كلمات الشوق فهنا منح الحرف لحظة اللصوق الناتج عن عشق مستحكم..
ثم تستدعى حرف اللام الذى منح المبررات المنطقية مثل قولها.
ليتجاوزا..
وكذلك اجتماع الواو والحرف لو فى قولها (ولو)لتعبء الحدث رغبة الشغف الواله..
وكذلك حرف (الجزم)(لم)الذى يحمل القطع والكف وكشف الحقيقة
وأكثرت الكاتبة من استدعاء (أن)المصرية الداخلة على الفعل المضارع لتحول المصدر الصريح إلى مصدر مؤول لتجذب القاريء إلى الولوج فى فيافى أحداث العمل القصصي ليستنتج بنفسه المصدر الصريح ومن أمثلة ذلك. قولها .
أن يعتقها . أن انشبت.. أن ترسل.. أن تكون .. أن تعاهدا .. أن أقرأها.. أن تستدعى ...
والناظر إلى مهارة استدعاء كل هذه الحروف سواء كانت للعطف أو للجر. او للتأكيد أو للشك . على مد بصرك عبر تعاريج النص يدل على وعي الكاتبة بحرفية استدعاء تلكم الحروف فى عبقرية مكانية فهذه الحروف هى بمثابة الدماء التى تجري فى العروق لتمنح الجسد حركة ونشاطا ..
وهكذا فعلت نجلاء.
*نجلاء عطية ..
ومهارة استدعاء الصورة البيانية وذلك راجع إلى عمق خيالها وصفاء روحها فهى على موعد هنا مع العبقرية الأدبية من خلال جملة الصور البيانية الماتعة والمبتكر منها أيضا فعلى سبيل المثال.
ماتت على شفتيها كلمات العشق.
أنشب الجزع أنيابه..
زحف على أطرافها الصقيع.
وعصف بروحها الضجر .
تضخمت الأسئلة.
وتشعبت الأجوبة..
القبل فاكهة العشاق .
هذه الصور ساهمت فى تشكيل القصة وتقديمها للقاريء بشكل يمتعه وينصهرمع الحدث..
الكاتبة ومبدأ التكثيف والتركيز .
لقد حققت الكاتبة أهم مبدئين فى عالم القصة القصيرة من خلال التقاط حدث أوموقف لتغوص فيه بالوصف التحليلي للوصول إلى لحظة الكشف من خلال توله البطلة وانصهارها بهاجس فتت عضضها .
لكن مفردة (تعنت القدر)ندت عن الكاتبةبسبب الحالة الانفعالية التى تلبيثها وقت الكتابة لكنها غير مناسبة فالقدر لا يوصف بالتعنت
ولكن نلتمس لها العذر لمقصودها للحالة المجازية للتعنت ..
الكاتبة نجلاء رسمت لنفسها طريقا فى عالم القصة القصيرة وصار لها قدما راسخة فى دنيا الإبداع النثرى عامة والقصصي خاصة
قدمها لكم الشاعر الناقد /سامى ناصف
.........
اليكم النص
سراب واحد لا يكفي
كانت تنتظر أن يهاتفها في ذات الموعد ولكن خذلتها هذه المرة لهفتها اليه وماتت على شفتيها كلمات الشوق التي صارت خبزهما اليومي ليتجاوزا تعنت القدر الذي يحول دون لقائهما ولو لبرهة من الزمن . لم يرن هاتفها الذي بقيت ترقبه في قلق ولا صوت يخمد نار هواجسها المقيتة. قررت بعد أن أنشب الجزع أنيابه في قلبها أن ترسل له بعض كلمات...ظنت أن اللحظة تحتمل المزاح وينتهي الوجع كما العادة بضحكاتهما العالية التي يعشقها المساء. ولكنه لم يرد . حافظت على هدوئها لربع ساعة وكادت تختنق فأرسلت له تعاتبه لأن صمته لم يعد يحتمل ورغم ذلك لم يرد.... زحف على أطرافها الصقيع وعصف بروحها الضجر واعتصر قلبها حنينها إليه. ولم تتردد هذه المرة ، طلبته على عجل فلم تعد لها أية قدرة على الصبر ولكن باءت محاولتها الأولى والثانية للاطمئنان عليه بالفشل. ما الذي جرى له هذا المساء فقد تكلما طويلا في الصباح وبدا منشرحا منغمسا في كتابة أحد التقارير، عمل روتيني يؤديه بامتلاء ...كم تعشق فيه تلك التفاصيل....كم تكبر فيه تفانيه في العمل....كم تتمنى أن تكون مثله في كل شيء كي يدرك الزمن أن ما بينهما أعظم حب في التاريخ طواه القدر. هل أصابه مكروه؟! كفي عن الهذيان ، هو بخير...ولكن لم لم يرد؟! ربما منعه عنها بعض الأصدقاء؟ أو ربما قضاء حاجة لا تحتمل التأجيل؟ لا....ولو .....فهو يعلم أنها تنتظره كموعد يومي مع الحياة ولذلك سيجد كيف يطمئنها عليه....لن يتركها فريسة للأوهام ولن يخذل الغروب بغيابه المروع دون سابق إعلان...تتالت الساعات ولم تسمع له صدى ...كم تضخمت الأسئلة وتشعبت الأجوبة ...كم اقترفت مشاعرها من الذنوب ورغم حزنها بقيت على يقين تام بأن حبيبها لن ينساها مهما طال الغياب ...ولكن....
صارت ترسل له الرسالة تلو الأخرى وكل ما فيها يغرق في الخوف ... بقيت تستجديه كي ينهي ألمها بكلمة تكفيها لتطمئن عليه و تسترد أنفاسها قبل فوات الأوان. ولم يبخل عليها .إذ جاءها إشعار بالرد. في تلك اللحظة ترقرقت من عينيها دموع الفرح. حمدا لله على أنه بخير ولا خير أكثر من الحياة بالنسبة إليها وكل ما سيخبرها به مهما كان قاسيا يبقى تفاصيل لا تغير في معنى الوجود. هكذا كانت تظن منذ أن تعاهدا على الحب. وفتحت الرسالة وبقيت تقرأ في ذهول. وللحظة انتابها شك في أن هناك خطأ ما طرأ على الخطوط وأنها تلقت كلمات كان المفروض أن تقرأها امرأة أخرى لا تشبهها في شيء فلا هي معنية بكل تلك العبارات الموجعة ولا حبيبها يمكن أن يحمل في قلبه ضدها كل تلك القسوة ولكن رسالته الثانية محت ما بداخلها من شكوك وشعرت بالتلاشي والضياع.... استلقت على الفراش في هدوء عجيب واستغرقت في قراءة تلك الرسالة القصيرة ليلة كاملة بطول اللحظات التي عاشاها معا والخطوات التي حفرت اسمهما على أرصفة المدن وحكايا العشق التي طالما تفنن في حبك تفاصيلها ليجعل منها بطلة لا تمرض ولا تموت والعهدة على من روى وهو العاشق الذي بقلبه وجد لا يعرفه سواها ...آه من مرايانا الجميلة حين يكرسها أصحابها وقد غشى بصيرتهم الغباء . اه من فجر أعمى لحظة تختلط عليه ألوان السعادة والشقاء و دون تريث يستسلم لما لا يليق به من الألوان.... يغتال أحلاما ويقصم ظهورا ويفتك بالاماني دون أن يعتذر....وبقيت لساعات تلعق دمها بازدراء وتنهش لحمها كي تستفيق وتستعد الى السقوط في شموخ..
انتابها شعور بالفقد،فقد مرير جدا ، لم تفقد أحدا سواها ...شعرت أن لا أحد سيعرفها ، رأت تفاصيل العشق الجميلة تغيب فجأة عن ملامحها.... ...شعور مدمر لا يدرك هوله إلا العشاق بعيد الإنسحاب .....كم كانت تظن أنها لن تقبر إلى حدود تلك الرسالة. ودخلت الحمام لتخفي حزنها تحت الماء ولكنها اصطدمت بالمرايا وكم ارتعدت فرائصها من قبح تفاصيلها بعد أن تشوهت . تذكرت كلماته عنها واحتارت من من المرأتين هي في قلب ذاك الرجل...وشعرت بدوار عنيف ..وبقيت تتقيأ مرارة الخواء ....كحبلى نزعوا من احشائها جنينها فأصابها الإكتئاب... كوطن زحف عليه الجراد فاعتل ...كعزيز قوم ذل ..... اغمضت عينيها كي لا ترى وجهها البغيض دون حب ...وفجأة تناهى إلى سمعها صوت أختها تدعوها إلى الفطور وغمغمت بكلمات لا معنى لها...وهمت بالذهاب إلى المطبخ لولا أن استوقفها سؤال : ماذا لو نظرت إليها أختها ولم تعرفها؟! كيف ستثبت هويتها لو اكتشف العالم من حولها أنها لم تعد تلك ؟ ... كم عراءها موجع هذا الصباح...اقتربت المسكينة من أختها وقبلتها كعادتها وقضمت على شفتيها كمن ارتكبت ذنبا ...كانت دائما تقول له أن القبل فاكهة العشاق ....ولكل فصل فاكهته المشتهاة ولم تتخيل ان هناك فصل خامس للعشق ، فاكهته بطعم الرحيل ، ورائحتها مقززة جدا تصيب أصحابها بالغثيان.....
مابك؟ ألم تنامي جيدا؟ وجهك متعب وعيناك متورمتان....
شيء من الأرق ...ربما ...
كان صوتها غير قادر على أن يحمل الكلمات من حلقها المعقود إلى حيث تجلس شقيقتها فالتزمت الصمت وهي تحتسي قهوتها دون أية رغبة في الأكل....وتذكرت موعدهما الأخير.....طلبا كعادتهما فنجاني قهوة ....كان يقول لها أن للقهوة معها مذاق آخر وسحر آخر ووجه آخر ....وكانت تضحك في زهو لتلك الكلمات....، العشق ينمي خيال العشاق فتصبح لهم مفردات ومعاني مختلفة عن الآخرين...العشق أخ المجاز ....وكم كان حبيبها سخيا في عشقه ... إلى حد أنه أنساها كيف تقول لاختها أنها تشعر في اللحظة تلك بالبتر واليتم دون ان تستدعي لها الطبيب .....هل ستتمكن من العود إلى ما قبل تلك الحياة التي عاشاها معا ....هل نشفى من الحب ؟! ....
ورغم ما يلفها من بؤس لم تحقد عليه ....فما أهداها إياه وصدقته كاف ليجعلها تسامحه على كل الخطايا ....ليرحل إن استطاع ولن تلومه على شيء ....جبارة هي في عشقها وحزنها ولم تبرر يوما مشاعرها ولن تفعل ....حبها قرأت له كتبا لتفهمه وكتبت عنه قصائد لتحييه ... عليها أن تحزن في خشوع إلى أن يتحول عشقها من مشاعر موجعة إلى ذكريات جميلة وستترك جرحها ينزف في أعماقها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق