الثلاثاء، 1 سبتمبر 2020

قراءة ذرائعية في القصة القصيرة"المخزن" للكاتب محمد البنا بقلم الكاتبة منى أحمد البريكي/تونس.

 للمخزن عدة مداخل

وهذا مدخله الذرائعي
بقلم ا. منى أحمد البريكي
.........
قراءة ذرائعية في القصة القصيرة"المخزن"

للكاتب محمد البنا

بقلم منى أحمد البريكي/تونس.

تصدير

"الذرائعي يرد فيه الحدث إلى الاختبار والتجربة،دون فصل بين العقل والحس أو بين العمل والفكر،أي جعل التاريخ في خدمة الحاضر،وليس استخلاص دروس منه حتى اذا استشعرنا لمح صلة أو أوجه شبه بين الماضي والحاضر."

من مقال الدكتور المنصف الوهايبي (كوفيد 19 / كورونا

نهاية تاريخ/بداية تاريخ )

المقدمة

نص يمتزج فيه الواقع بالتخييل ضمن المحكي كحدث بسيط من الحياة اليومية الصرفة،والخطاب كلغة تتسامى عن الواقع بمفردات توهم بواقعيتها وتجنح نحوعالم عجائبي متخيل يغازل من خلاله الكاتب أرباض الواقعية السحرية باقتدار ودون الخروج عن الواقعية الطبيعية التي تؤمن بازدواجية الإنسان روحا وجسدا وأن الخلود للروح.

وهذا ما جعلني انتهج قراءة ذرائعية ألج فيها القصيصة من خلال :

1_بؤرة التبئير:

انطلاقا من القناعة بأن الأدب رسالة تحمل هموم المجتمع وانشغالاته انطلق النص من الذاتي نحو المجتمعي الإنساني وقد صيغت مفرداته في مشهد "جمالي يبرز صورا متلاحقة."*1*

فقد سخر الكاتب أدوات السرد القصصي ببراعة تتوافق مع استراتيجية تفكيره.صاغها انزياحيا وبلاغيا بتكثيف محكم وجمالية فنية طارت بجناح كاميرا ترصد حدثا واقعيا يوميا إلى مستوى تخييلي عجائبي مثل بؤرة النص التي تدعو القارئ إلى التأمل في الوقائع دون اغفال مسبباتها ونتائجها على الفرد والمجتمع.

2_تيمة النص:

كرس النص مبدأ التعويض الأخلاقي وملاحقة الجريمة،ومن منظور ذرائعي يرفع الأدب الورقة الحمراء في وجه الظلم والتسلط واستلاب القوى المهمشة لإرساء السلم والأمن والمواطنة الحقة التي تكرس الندية في الواجبات والحقوق وإزاء القوانين المنظمة للحياة في كل أشكالها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

فالأدب كما يقول براكلى"رؤية فنية تحاول الإمساك بقوام الحياة وتقدمه بأسلوب فني متميز."

وهذا ما يحيلنا إلى

3_العنوان: كأول وصيد بصري جاء العنوان مفردة معرفة تأخذنا بدلالة المعلوم من مدلولاتها المعجمية {المخزن اسم مكان من خزن /مستودع/حجرة تخزين /مكان لحفظ الأشياء سليمة مدة طويلة /وهو اسم مشتق من فعل خزن :أ_خزن التاجر بضاعته جمعها في مخزن.

ب_خزن لسانه:حفظه ،منعه الكلام.

ج_خزن السر :كتمه.

د_خزن اللحم والطعام خزن خزنا وخزونا :تغير وأنتن.

_*2*

وفي معجم تفسير ابن منظور، خزن المال : إذا غيبه

"ولا أقول لكم عندي خزائن الله ."

قال ابن الأنباري معناه غيوب علم الله التي لا يعلمها إلا هو، وقيل "للغيوب خزائن." لغموضها على الناس واستتارها عنهم.

وترك لنا مهمة البحث فيه كعلامة لغوية بتمظهرات دلالية رمزية مختلفة.فالعلاقة بين المخزن كمسرح للأحداث وكعنوان بمثابة نص مواز للنص السردي؛يمثل بؤرة لأرواح معذبة (لا تزال)تبحث عن الإنصاف واسترداد الحقوق وهي تشير إلى الأحياء مستنجدة بذاكرة مثقوبة لمجتمع لاهث وراء لقمة العيش المغمسة بالهوان والذل فترج قلوبهم بانفجار قطار عساهم يخلصون مخازن نفوسهم من العتمة والظلم تماهيا مع القاعدة النبوية الكريمة"الظلم ظلمات يوم القيامة."

فهل نجح في التعبير عن تيمة هذا النص الذي لم يتجاوز عدد كلماته 184 مفردة ،هل ارتقى إلى مستوى انتظارات القارئ وأشار إلى دلالاته المرصودة عند الانتهاء من قراءته؟

هذا ما سنتكتشفه .

3_المستوى اللساني :

تضفي اللغة المشحونة بالدلالات على القصة الإيحاء من خلال التكثيف بالتلميح والرمز والاقتضاب وتجنب الحشو.لكل جملة في القصة وظيفتها ولا يمكن الاستغناء عنها،فهي تقتصد في عناصر الحكاية وفي البنى اللغوية أيضا.

و قد بنى الكاتب نصه بأسلوب اعتمد الانزياح الرمزي والخيالي، على أنقاض رماد قطار رمي بمخزن بعد حادثة بشعة أودت بأرواح البسطاء.فالسارد الذي يحكي لنا القصة ويشارك في الأحداث، يتستر وراء ضمير المتكلم، ليلبس لبوس الكاتب ويمرر الخطاب فيتماهى سيمائيا معه، وللإيهام بواقعية الأحداث أوغل في رسم التفاصيل البسيطة وانتبه إلى أدق التفاصيل فصورها بكاميرا بانورامية ثابتة تؤرخ الحدث لحظة وقوعه وتحيل على عدم اكتماله وتوقفه في جمود (لا يزال عم عبدة يحمل بيده براد الماء المغلي/استوقفه بإشارة من يدي /تنهيدة ارتياح تحفر طريقها في أخاديد وجهه /لم أكلف نفسي عناء تحريك شفتي واكتفيت بانفراجة من إصبعي. )

مشهد واحد صامت ،ساكن يمكن رسمه بريشة فنان، يعاد مرات وبلا هوادة دون أي نتيجة على أرض الواقع(فلا هو صب الماء الساخن في الكوب ولا أنا تمكنت أن أمد يدي /ودائما نفشل لنبدأ من جديد.)فالافعال الحركية هنا منفية بلا لاستحالة وقوعها.

إضافة إلى الاستنجاد باللهجة المصرية(سكرك إيه يا بيه؟ )

وذكر أمكنة بعينها وتسميتها (محطة بني سويف /محطة الواسطى ) ليحيل على خصوصية محلية للواقع المعيش.

4_المستوى النفسي:

سجل الكاتب في هذه القصيصة سلوكات انسانية حياتية من اليومي المعيش وسلط عليها الضوء في اطار واقعي ، فشخصية بائع الشاي هنا ذات بعدين.

دلالتها الاولى الفقر والكد وراء لقمة العيش بما ييسره القدر والثانية متشاكلة مع بؤرة الحدث في النص فهو رمز لأغلبية لا صوت لها،مكممة الأفواه بحكم هامشية وجودها كأناس لم يرتقوا إلى مرتبة المواطنة وبحكم حادث أبقاها حبيسة مخزن للنفايات كروح تنشد السكينة والقصاص.

أ_جدلية العدالة:

تساؤل اجتماعي سياسي يدعو إلى ضرورة المساءلة وتحميل المسؤوليات،وغير المعلن فيه هو صرخة الكاتب في وجه الظلم والنسيان والإفلات من المحاسبة.

وهذا النص "المونوفوني"استوعب كل الأصوات وعبر على لسان السارد بما لم تقدر عليه الأموات ليتحول المخزن إلى فضاء تتموقع فيه الشخوص في صمت مريب كما لو كانوا رسوما في لوحة زيتية علقت على جدا بيت خلا من ساكنيه.(بينما الرجل الذي يحاوره لا يزال يجاوره،وآخرون جالسون في مقاعدهم كأنهم موتى. )

وعبر عن موقف الكاتب من التهميش والتفقير الذي يعيشه المجتمع فكانت الحادثة تأريخا لحادثة دونتها الذاكرة وخزنتها لتقع المساءلة لاحقا وحتى لا يبقى مهندسوها بعيدين عن دائرة الاتهام والمحاسبة

أو كما يقول ليوتار "تقديم الشيء الذي من المستحيل تقديمه."

ففي الدول التي تحترم حقوق مواطنيها يستقيل المسؤول السياسي وبقدم أصحاب الصفقات المشبوهة إلى القضاء ويحاسب كل من قصر في القيام بواجبه وكان من بين أسباب الحادث مهما كانت وجاهته أو مكانته الاعتبارية.

ب _التناص الفكري العقدي:

لكل ما وصف في هذا المخزن دلالات رمزية خفية موازية للمكتوب فيها تناص مع عالم الارواح التي استحضرها الكاتب، ليبرز أنها ستبقى رهينة هذاالمكان حتى تتحقق العدالة تماهيا مع فكرة لثواب والعقاب ،"وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب،لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر،فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى،اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئا."*3*

"فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين."*4*/

"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون."*5*

وختاما أرجو أن أكون قد وفقت في هذه القراءة لهذا النص التي تبقى اجتهادا يحتمل الخطأ كما الصواب.

الهوامش

*1*عبدالرزاق عودة الغالبي /الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية

*2*معجم المعاني الجامع /معجم عربي عربي.

*3* فتح الباري (5/100 )

*4* سورة الأعراف الآية 44

*5* سورة الشعراء الاية 227

النص :

"المخزن"

لايزال عم عبده يحمل بيده براد الماء المغلى، وعلى كتفه صينية معدنية تحتضن عددًا من الأكواب البلاستيكية، يقطع المسافة بين مدخل العربة ومقعدى في سرعةٍ خاطفة، أستوقفه بإشارةٍ من يدى، ألمح تنهيدة ارتياح تحفر طريقها في أخاديد وجهه، وهو يزيح بكتفه الآخر الرجل الذي يجاوره، ويُفسحُ لصينيته مكانًا.

سكرك إيه يا بيه؟

لم أكلف نفسى عناء تحريك شفتىّ، واكتفيت بانفراجةٍ بين أصبعىّ.

إلى هنا ينتهى المشهد، ليعاد مراتٍ ومرات، فلا هو صب الماء الساخن في الكوب، ولا أنا تمكنت من مد يدى لأتناوله، وقتئذ بالطبع لم أكن أعرف اسمه، فما كان إلا بائعًا للشاى، يدلف للقطار عندما يتوقف لدقائق في محطة بنى سويف، ويغادره عندما يتوقف لدقيقتين في محطة الواسطى، وهو أيضًا لم يكن يعرفنى، بل لم يكن ليهتم بمعرفتى، فما أنا في معتقده البسيط إلا زبون أرسله الله له بما قدّره من رزق، ولكن تلازمنا الطويل نسبيًا في تأدية ذلك المشهد ألقى بظلال الألفة بيننا، حاول كثيرًا أن يملأ الكوب، وحاولت جاهدًا أن أرفع يدى، ودائمًا نفشل لنبدأ من جديد، بينما الرجل الذي يجاوره لايزال يجاوره، وآخرون جالسون في مقاعدهم كأنهم موتى، والعربة المهشمة من أثر الانفجار لاتزال مُلقاة في مخزنٍ للنفايات.

بقلم الكاتب: محمد البنا

L’image contient peut-être : 2 personnes, gros plan
L’image contient peut-être : ‎‎‎منى أحمد البريكي‎‎, gros plan‎
L’image contient peut-être : 1 personne

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق