عندما يتدفق الماء رواءَ
قراءة متأنية لنص " رائحة العشب "
للأديب / محمد البنا
بقلم الناقد المصري الكبير دكتور / عبد الرحيم خير
..........................
من جديد وعَبْر قصة واقعية حد التصديق والمشاهدة، خياله حد المبالغة واللا معقول يطل علينا الأستاذ البنا وكما عودنا في كتاباته بنص خيالي غارق في الواقعية، وبهذه القدرة العجيبة والملكة الرائعة على دمج وخلط الواقع بالخيال وتصويرهما وصبهما في صوره حية يألفها كل من يقرأها، بل ويراها تتحرك أمامه بشخوصها وأدواتها ومكوناتها وبهده التركيبة الغرائبية كان النص...
والذي عَبر به الكاتب من أزقة الواقع الضيقة ليصل بنا إلى ساحة الخيال الواسعة، حيث المشاهد الواقعية المتكررة واللامتناهية خارج حدود الزمن وحيز المكان وحدود المعقول، ومن خلال وصف دقيق ومرتب لأفعال واقعية من بيئتنا الزراعية وبواسطة جمل قصيرة غاية في التكثيف أصبحنا كأننا ننظر إلى صورة حية ماثلة أمامنا (عقد جلبابه / ضامًا أطرافه/ إلى خصره النحيل،/ انحنى على حافة القناة/ مُحدثًا فجوةً في الجسر الممتد بطولها؛ /اندفع الماء متلهفًا لإرواء الأرض العطشى)
تَعْجب وأنت تتأمل هذا الجلباب الواسع الذي يعوق حركة الفلاح فيلجأ لعقده ثم لايتركه مرسلا وإنما يرفعه إلى خصره كي لايَغْرق بالماء ليمارس عمله في ري الأرض( وهذ الخصر بهذا الوصف ) الذي يتناسب وطبيعة أعمال الزراعة والمترتب على العمل المستمر والذي أدى به إلى النحافة، والذي يحليلنا إلى معانٍ متعددة كالنشاط والحركة الدائمة فالفلاح وبهذا الوصف نشيطا ليس كسولا، متوكلا لا متواكلا، ثم هذا التغيير لخط سير الماء وما توحيه دلالته كأنه حُبس عن عمد فاشتاق الأرض واشتاقته، وتحول عن قصد فسال عزبا رقراقا واندفع متلهفا لإرواء الأرض العطشى، هذه الحالة الغريبة والتي تبدلت فيها الأدوار فأصبح الماء هو من يتلهف لري الأرض، حالة من الغرابة لايفسرها المنطق رغم واقعية المشهد، فالمعلوم أن العطشان هو من يتلهف ويتعجل وصول الماء لا العكس.
ثم إن المشهد بالكلية مشهد الري بالقصة هو مشهد متجدد ومستمر باسمترارية الزمان، مكوناته
(الأرض العطشى/الماء المتدفق/الفلاح عاشق الأرض) يكون الفلاح دائما بهذا المشهد هو البطل ويتكررالمشهد ويعاد في متوالية لانهائية ، لاتقترن بحساب الزمن ولا ترتبط بمرور السنون( هكذا كان يرى أباه يفعل.. ألف عامٍ مضت ولا شيء تغيّر) ورغم استمرارية المشهد تبقى الطبيعة ببكارتها وصورتها الأولى لم تمسها يد التحضر ولم تؤثر في جمالها رياح التغيير ولم تعمل فيها آلة التطوير، تبقى الأرض كما هي وتبقى علاقة الفلاح المقدسة بها كما هي علاقة جدلية تبادلية، الأرض / المحبوبة والمعشوقة، والإنسان المحب/العاشق علاقة قد تتجاوز دلالتها القيم المادية (الجاه، العزوة) فتأخذ طابعا وبعدا روحيا، فترتبط بمعاني الحب والتضحية والفداء أو بمعاني الشرف والكرامة والعرض، وقد تتطور هذه العلاقة فتأخذ بعدًا آخر بعدا فلسفيا باعتبار أن الإنسان جزءً من الأرض منها خلق وإليها يعود، علاقة معقدة تتخطى حدود الزمن وأسوار الواقع، تنطلق من أرض الواقع لتحلق بعيدا في سماء الخيال، وحين ننظر من خلال تلك النافذة المفتوحة على الواقع لا نعلم إن كنا بالحقيقة أم بالخيال، وإن كان البطل الذي أطل بهذه الهيئة هو بطل حقيقي كأولئك الكادحين الذين يرقبون مواعيد الري والتي لاتكون غالبا متاحة إلا ليلا .. ( في ظلمة الليل القادم، ) وما هذه الأشباح إلا خيالات و صور معلقة بجدار ذاكرته من زمن بعيد لأبيه وجده وحكاياتهم وعاداتهم التي ورثها عنهم؛ ذكريات تداعب خياله وتؤنس وحدته حتى وإن كانت في صورة أشباح ....
أم هو واحد من هؤلاء الأشباح حن لأرضه واشتاق رائحة العشب فعاد إليها كما يعود الراحلون في غفلة من الزمن بين اليقظة والمنام بين الحلم والحقيقة (لا يدري كم من الوقت مضى )
يروي ظمأ روحه ويمارس عمله وعادته وسيغادر سريعا وقبل النهار وبعد أن يعيد كل شيء كما كان ليبقى الوضع على ماهو عليه .. ( حين طرق صوتها أبواب أذنيه برقة " كفى ماءً، لقد ارتويت "، ردم الفجوة وانتصب واقفًا، فك عقدة الجلباب، وأخذته خطاه المتسارعة متخطيًا بضع قنوات، ليلتحق بطابور الأشباح.)، وتبقى الأرض هي التاريخ والحضارة والجسر الذي يربط الحاضر بالماضي بالمستقبل ....
تتسع ساحة الإبداع للجميع، ولكن لايبقى أثرٌ من هذا الإبداع في ذاكرة القراء، إلا لمبدع ملك أدوات الإبداع وامتلك زمام الحرف فانقادت له الكلمات طائعة، فراح يرسم بها صورا تتراءى لأعينِ قرائه تتحرك...
ومن هؤلاء أستاذنا القدير /محمد البنا دمت مبدعا معطاءً، خالص تحياتي ....
عبدالرحيم خير..٢ سبتمبر ٢٠٢٠
...............
القصة
..........
رائحة العشب
...................
عقد جلبابه ضامًا أطرافه إلى خصره النحيل، انحنى على حافة القناة مُحدثًا فجوةً في الجسر الممتد بطولها؛ اندفع الماء متلهفًا لإرواء الأرض العطشى.
جلس على حافة الجسر، أمسك بعصا صغيرة وغمس طرفها في المياه المتدفقة؛ هكذا كان يرى أباه يفعل.. ألف عامٍ مضت ولا شيء تغيّر، رائحة العشب، نقيق الضفادع، خرير الماء، خضرة الأرض وزرقة السماء، وأشباحٌ تمضي في ظلمة الليل القادم، صوب أشباحٍ منتصبة حيث ينتهي البصر.
لا يدري كم من الوقت مضى، حين طرق صوتها أبواب أذنيه برقة " كفى ماءً، لقد ارتويت "، ردم الفجوة وانتصب واقفًا، فك عقدة الجلباب، وأخذته خطاه المتسارعة متخطيًا بضع قنوات، ليلتحق بطابور الأشباح.
..........
محمد البنا...ديسمبر ٢٠١٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق