الأحد، 20 سبتمبر 2020

عندما لا ينفع الندم قراءة سريعة لنص " عصفور مهاجر " للأديبة السكندرية / سالمة المغربي بقلم / محمد البنا

 عندما لا ينفع الندم

.........
قراءة سريعة لنص " عصفور مهاجر " للأديبة السكندرية / سالمة المغربي
بقلم / محمد البنا
............
عندما أقرأ نصًا أدبيًا أسعي بوعي ولا وعي إلى معايشته، كأني كاتبه أو أحد أبطاله، وعندما أبكي وأنا أقرأ، فهذا مرده عادة إلى الحالة الثانية من المعايشة ( التقمص )، بكيت لأنني كنت الأب الناصح لفلذة كبده، فلم تنتصح، وأصرت على المضي بعيدًا في تغريبةٍ، لها مضارها كما لها منافعها، ولكن أي منفعة تضاهي ضرر موت المشاعر !!
المشاعر تموت ببطء مع تقادم سنين البعد، وتتحول إلى كراهية حين يجرد المُقيّمُ المُقيَّمَ من طبيعة انتسابه له، فلا يرى فيه كأب إلا رمزًا رخاميًا وأحرف ميتة، فيكره فعله أو ما يظن أنه فعله، وتتفجر المشاعر- التي ماتت أو ظننا أنها ماتت- في لحظة فارقة مضيئة وصادمة، فنندم حيث لا ينفع الندم.
كنت الأب المحب بالفطرة لابنته، التي أكلت الغربة من وشيجة ارتباط بنوتها، وقضت الوشاية على ما تبقى من مشاعر، وأحلت محلها الكراهية، كنت الأب الذي لم يذعن لواقع مرير يعيشه، وسعى بكل جوارحه ومشاعره التي جبله الله عليها، وأقرّها في كتابه الكريم من فوق سبع سموات، سعى لإصلاح ذات البين قدر استطاعته- مجموعة من الصور تخلد ذكريات علّها تحيي موات- لإذكاء شعلة البنوة في ابنته، التي انطفأت أو كادت.
ليلتقط الخيط صدفة جليسٌ في رحلة سفر، فيضع النقاط على حروفها، فتستفيق الابنة وتشتعل المشاعر في لحظة ( عصفور ونسر ) فارقة، فتجد في الرسام ( الجليس ) صدرًا تنهمر عليه فيه دموع ندمها.
نص محكم الحبكة، قوي في معالجته المدرة لدمع من كان به بقية من بنوة ( ابن عاق او ابنة )، ودمع من كان أبًا وظلمته الدنيا بجحودها.
نص ظاهره ثابت او بطئ الإيقاع الحركي، لكن باطنه يتمدد في اشتعاله رأسيًا حتى يبلغ أوج أشتعاله مع جمل نهايته.
نص حركته تكمن في لجوء الكاتبة إلى الفلاشباك تفاديًا للوقوع بين أنياب طول المدة الزمنية للنص( طفولة، صبا، شباب، اكتمال)، ويشتد إيقاعه الحركي ببطء متعمد( في الطريق إلى المطار )، ويتسارع الإيقاع حركيا وبشدة في جريها في ممر الطائرة بحثًا عمن رأت فيه أباها بعد فوات الآوان.
كانت وكانت وكانت وكانت...تكرار رباعي فيما لايزيد عن سطر ونصف!!.. ما كان ينبغي له أن يكون.
سوء التنسيق طرح تداخلًا بين الحوار والسرد غير محمود.
أهنئك كاتبتنا الرائعة وصديقتي الجميلة...سالمة..على هكذا براعة
محمد البنا ..٦ سبتمبر ٢٠٢٠
.........
النص
.....
عصفور مهاجر
**************
في صالة الوصول، أجريت اتصالا بأمي، سألتها عنه، أجابت بصوت يملؤه الحزن:
"أسألك له الدعاء، توفي بعد سفرك بنصف ساعة تقريبا...
لم أصدق أذنيّ، كدت أصرخ أمام الملأ.

أشرد في صورة وصوت الرجل الذي جلس بجواري بالطائرة؛ رسوماته تشوش عليَّ أفكاري.
حين وقع نظره على بعض الصور التي أخرجتها من المظروف الكبير، استأذنني في أن يرى صورة معينة، كنت فيها أحتضنه بعيني وهو في غاية السعادة. ناولته إياها، دون أدنى تفكير فيها.
أخرجَ من حقيبته دفترا_ اسكتش_ وقلم فحم.

سرحت في الصور ومواقفه الحديثة التي سمعتها عنه، فكرت كثيرا في تفسير نظرات أمي التي حيرتني، بها غضب، تسويف، اعتراض وأيضا اعتذار.
غفلت عيناي قليلا ، استيقظت على صوت الراكب بجواري يعتذر إذ أنه أصاب الصورة بغبار فحمه:
_ أسف يا دكتورة سهى.
تعجبت، كيف عرف اسمي! سألته:
_ تعرف اسمي ومهنتي؟!
_ نعم.. لقد وقع الظرف من بين يديك وقت غفلتك،
لملمت الصور المبعثرة، فعرفت منها حكايتك كلها، سامحيني.
_ حكايتي كلها؟!
_نعم.. ولو أردتِ أن تشاهديها الآن؛ هي في هذه البروتيهات التي رسمتها.

ناولني الاسكتش.. رأيت صوره كلها كان فيها باكيا، سألت الرسام:
_ ما أدراك أنه يبكيني؟!
_ إنه الفقد يا دكتورة.

تذكرت يوم كنت أعد حقائبي لأول مرة أسافر فيها، منذ عشرة أعوام، ولأول مرة أرى دموعه، أمي تهدئ من روعه بكلمات تبث فيها الأمل، ولكنه قال جملا لن أنساها:
"ستتعودين الغربة، ستتغير مفاهيمك، ستنسين ماضي جميل بحاضر براق يعمي العيون، الانسلاخ ببطء سيخلق منك شخصية مادية بلا قلب.. بلا روح، وبُعدك عنا؛ سيميت الكثير، يا ليتك تتراجعي عن قرارك، أرجوكِ".
ضمني إلى صدره بقوة، أخذ يشتم شعري، ويقبل باطن كفيّ، ويربت على كتفي بحنو بالغ.

في كل مرة، يودعني بالليل بقبلة على جبيني وأنا أعد حقائبي. في ساعة السفر؛ يختفي.

قالت لي أمي أنه يريد أن يحمل حقائبي بنفسه إلى السيارة، وكذلك مرافقتي هذه المرة إلى المطار؛
قبلت _ من باب الحفاظ على الصورة العامة للعائلة_ لم نتكلم بالطريق، عيناه مسلطتان على نافذة السيارة وكأنه يعد أشجار وطيور وأحجار الطريق باهتمام بالغ. عند مدخل المطار، أراد وداعي بقبلة، لم أعطه الفرصة، ناولني الظرف بعد أن قبله ووضعه على صدري وأمسك بيدي وأسنده بها.
سألت نفسي:
ما سر إصراره على توديعي بنفسه هذه المرة، ولم أهداني الظرف؟!

لا أعلم سر بكائي وأنا بالطائرة، ولا أعرف أيضا ما جعلني أفتح الظرف.
رأيت فيه صوري وأنا بأحضانه، يلاعبني، يعزف لي على البيانو، يغني لي أغاني جميلة، يضع على رأسي وردة طبيعية، يحتفل بي يوم حصولي على شهادة الماجستير، يستلم معي شهادة الدكتوراه.

ملاك بجناحين.. كنت أراه دوما في هذه الصورة، لم أتخيل يوما أن يكون بعكسها.
سمعت مؤخرا من _جارنا_ صديقه الصدوق، أنه يرتاد الحدائق ليواعد بعض البنات الصغيرات بالذات.
سألت أمي عن سبب تغير حاله ولِمَ خص الصغيرات، لم تجب بكلمة واحدة. عيناها تستران شيئا.
دخلت غرفتي. بكيت. سببته في نفسي. كرهت لقاءه. فضلت العودة مرة أخرى إلى بلاد الغربة على أن أعيش معه في بيت واحد.

أمس طرق باب غرفتي. قبل أن أفتح له، ارتديت _اسدال الصلاة_ غطائي، لم أبد له ترحابا، وقف يحدثني عند الباب بكلمات حانية؛ كدت أبكي لولا ما سمعته عنه.
الرسام يتبعني بعينيه خطوة بخطوة، شككت في تصرفه، وجدته يتصرف مثله، يتعقبني، هو يتعقب الصغيرات إذن!
تخيلته كأنه هو؛ سألته غاضبة عن سبب تتبعه لي؛ وجدته يرد بلا ضجر :
_ أرى فيكِ صورة ابنتي التي سأقابلها بعد قليل بالمطار. أنها تشبهك كثيرا، عدا...

سكت برهة، كانت بالنسبة لي أكثر من ساعة، أردت أن يكمل ما بعد كلمة (عدا) نظر في عينيِّ نظرة عميقة، ثم أغلقهما ولم يجب. الحنان والعمق فيهما؛ جعلاني أتمناه أن يحل محله لبقية عمري.
تعرفت عليه أكثر. هو رسام مشهور، كل تعبيراته كانت رسومات، إذا سألته؛ أجاب برسم، حتى النكات تتحول إلى رسم.
قال لي أحكي.. وأنا أرسم.
أطلقت لساني حتى أني نسيت ترتيب الأحداث زمنيا أو حسب أهميتها.

توقف القلم عن الحركة بين أصابعه، أدمعت عيناه، سألته:
_ تبكي إشفاقا عليّ؟!
رد وهو يمسح عدسات نظارته:
_ بل أبكيه، هجره عصفور ليعود إليه نسر من نحاس، لا قلب له ولا روح، معذرة يا دكتورة، خدع بصرية تلاعبت بعينيّ حين رأيتك وتكلمت معك بأول الأمر، ابلغيه بالنيابة عني أحر التعازي.

أدار وجهه عني لحظات، ثم ذهب إلى حيث المرحاض.

أمسكت برسوماته الأخيرة وأخرجت ما كان قد رسمها لي منذ ساعة، وجدت فارقا كبيرا، رأيت رسما كيف تحول العصفور لنسر نحاسي بالتدريج.
تمنيت أن يعود سريعا، لكنه تأخر، تمشيت حيث ذهب، وجدته يجلس على مقعد من المقاعد الشاغرة بآخر الطائرة، جلست بجواره، وضعت رأسي على كتفه، بكيت.

أفيق على صوت أمي وهي تكمل حديثها معي عبر الهاتف:
البنات اللواتي كان يرعاهن في صورتك، أتين للعزاء بثياب سوداء وبقلوب بيضاء، ليودعن أبا روحيا لهن، سألن عنك كثيرا، كن يحفظن سيرتك معه ويتفاخرن بك أختا وبه أبا".( سالمة المغربي ..٤ سبتمبر ٢٠٢٠

L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan
Aucune description de photo disponible.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق