قراءة سريعة في حَضْرَةِ الحَشَّاشين للكاتب سمير العَصَري
بقلم / محمد البنا
.................
يباغتنا الكاتب الحصيف بشيخ الحشاشين ووبيته المحاط بالجنان( قلعة الجبل )، وحضرة من حضرات إحدى الطرق الصوفية، وأحسب أنها الطريقة البرهانية وشيخها محمد عثمان البرهاني- كنت أحد متابعيها زمنًا ما-، وحضرة الليلة ( الخميس ) يحل فيها الانبياء والصحابة في الحضور، فيتكلم الحضور نيابة عنهم وباسمائهم، وبأحاديثهم المأثورة عنهم، ويزيدون بإرهاصات مستقبلية، ولنقل على وجه الدقة خطط مستقبلية تُسيّر العالم، ولكني - لا في هذه الحضرة، ولا في غيره تمثلَ للحضور جلال ولا حل في أحدهم، وأحسب أن ذلك تضخيمًا من الكاتب آمعانًا في السخرية والتهكم على هكذا حضرات وعلى هكذا حضور.
نص ساخر تناص مع ما يُشاع عن الطائفة الإسماعيلية، وتخصيصها لفرقة اغتيالات مقرها قلعة الجبل، حيث الخمر والحشيش والنساء متاع للمقاتلين ومكافأة لقيامهم بما يكلفون به من أعمال، وتناص آخر مع قول الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه( من يريد أن تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الجبل ) حين أزمع الهجرة من مكة إلى المدينة.
والتناص الرئيس هو ما أسلفت ذكره بدايةً عن الحضرة الصوفية، أحل فيها كاتبنا ( ساخرًا ومتهكمًا وناكرًا ) تعاطي الحشيش محل ذكر الله، مبديًا رفضه المباشر والصريح لكل الطرق الصوفية، وسكوته عن تعاطي المحرم ( الحشيش )، فقد تعاطاه الراوي وتعاطاه عمر، وتعاطاه أهل الحضرة ( حشيش ذو جودة عالية )، ولم ينكره عليهم، ولا اعتداد بقول فتوح له ( انسطلت ) كمكافئ ضمني للرفض.
أقول هذا ما يقوله النص كفكرة ولغة وسرد ومعالجة، ولا يعني ذلك ارتباطًا بأي شكل بمعتقد الكاتب.
بل هى فكرة رأي فيها ما أبدعه، ووفق تماما في طرحها..لغة(ساخرة تهكمية )، سرد متقن، حبكة جيدة، ومعالجة ناجعة، وخاتمة خفيفة باعثة على الابتسام، إلا أنّ هناك اسمًا واحدًا لم أر له نظيرًا يحل فيه ( كمال )، وعدم ذكره أصلا لا ينتقص من النص شيئا.
محمد البنا...١٧ سبتمبر ٢٠٢٠
............
النص
.........
في حضرة الحشاشين
Samir Asaer
.........
تطلّع من البَلكون بعد بُرْهَة من صفيري، أشار لأصعد إليه، حمدت اللهَ لعدم إعْرَاضِهِ عنى هذه المرة، لم يكُن عُمر ليستقبل في شقته من أصدقائه أحداً سواي، لا أحدٌ يعرف على وجه اليقين ما ألمّ به، اِنزَوَى بعيداً عن الناس مُقيماً بخَلْوته مُنكفِئًا على أمهات كتب التصوف مُقبلاً عليها بكليته لا يصرفه عنها شيء. ﺃﺴﺭعت أﻘﻔﺯ ﺩﺭﺠﺎﺕ ﺍﻟﺴﻠﻡ مثنى ﻭﺜﻼﺙ، فتح لي الباب وسبقني للداخل، أَغْلَقت الباب وتبعته، الغرفة مُعبأة برائحة الحشيش، مازالت على حالها الكتب والمجلدات مُبعثرة تفترش الأمكنة، ألقيت بصري نحوها، مخطوطات عجيبة في أسمائها وأسماء أصحابها، عنقاء مغرب، الطواسين، خلع النعلين، هياكل النور ....، الحكيم الترمذي، السهرَوردي، الحلاّج، ابن مسرة، ابن قسي، ابن عربي، ابن العريف ....
تمتمت:
- ابن الهرمة. اِلتفت إلىّ، فبادرت مُمازِحاً:
- ينقصك مخطوطٌ لابن الهرمة.
نظر إلىَّ طويلاً نظرة اضطربت لها، ثُم قال بهدوء:
- لا أحب شعر ابن هَرْمَة.
هالني عدد السجائر المُطفأة في المنفضة وقد ثبَّتُ نظري عليها، مد يده لي بسيجارة مَحْشُوّة وتمتم مُعتذرًا:
- آخِر الزَّاد.
داعبته بقولي:
- فلنذهب لمولد الشَيْخ مُحَمّد أبو الجنّة، اليوم ليلته الختامية، نُكمل السهرة، فقد نجد هناك ما نعوزه من أنفاس.
اِنتفض ورفع رأسه عن المخطوط الذي يُطالعه وقال بسرعة:
- أبو الجنّة، قَدّس اللهُ سِره، قَدّس اللهُ سِره.
تمتمت باستنكار:
- قَدّس اللهُ سِره ؟!، هذا المُشعوذ، الحشَّاش!
اِلتَفَتَ بَاسِماً إلى السيجارة المَحْشُوّة بيدي، قلت مُتحرّجاً:
- عفواً.
نكّس رأسَه وطال الصمت بيننا، ثم قال:
- سأحدثك حديثاً ما سمعه منٍّى أحدٌ قط، وما سمعت أذناك أعجب منه، ولا أعرف حتى الآن أكان حقيقةً أو خيالا، ولا تقاطعني حتى أفرغ منه. أومأت رأسي بالإيجاب وأنا أدخن في هدوء وصمت وقد ساورني الشك في بعض ما أشيع عنه من غرابة أطواره، وما كُنت لأقاطعه الحديثَ وقد آن له البوح ببعض ما يحبسه في صدره ، قال بعد برهة صمت وتردد :
- عرفت الشَيْخ أبو الجنّة في حياته قبل مماته بأسابيع قليلة، قابلته أول مرة عند صاحبنا تيسير رَحِمَهُ الله، كُنّا جلوساً ندخن بعض السجائر المَحْشُوّة، وكان الشَيْخ أبو الجنّة يجلس في ركن الحجرة يرقبنا في صمت، أكاد لا أنتبه لوجوده أو أُعيره انتباهاً إلاّ بعد أن قام من جِلْسته وقال بصوت هاديْ قطع علينا تضاحكنا ومرحنا :
- أنتم تشربون حَشيشَة الفقراء غلط ... غلط . ، وراح من فوره يتهادى إلى باب الخروج، التفت فجأة ناحيتي يخاطبني :
- يا عُمر ، لك منى دعوة مفتوحة، في ليلةٍ زهراء ، بعد صلاة العشاء بساعة لا أكثر .
، تعجبت من قوله، طَبطَب تيسير على صدري وهو يقول مُتَهَلِّلاً في بِشْر :
- اِنْبَسطَ يا عم، أنت من المُختارين، نُلت الرضا، لك الجنة، جنة الشَيْخ . ، ضحكت، فأردف :
- كيف لا تعرف الشَيْخ أبو الجنّة ؟! ، هو هكذا يحب أن يجلس في سكينة ولا يحب أن أعرّف به أحداً، اِختارك من بيننا، هنيئاً لك ستنهل من مُدام الحب والصفا .
، رددت في نَزَقٍ :
- مُدام ؟!، مادام كذا، ماشي، أي ليلة زهراء ؟ .
، أجاب في احْتِجَاجٍ لجهلي:
- ليلة الجُمعة من كُل أسبوع.
لم ألق لقوله بالاً، ونسيت الأمر كُليةً، حتى جاء يومٌ عزّ فيه الكَيف وندر، لا أدرى بنفسي إلاّ وقد ساقتني قدماي خارج البلدة واقتربت كالمسحور من البيت الكبير ذي الدورين القابع على النهر تحوطه كالمَرَدَةِ أشجار الكَافُورُ والكازورينا، خلفه الحديقة الغنّاء، جنة الشَيْخ كما يطلقون عليها بما تحويه من أصناف أشجار الفاكهة والأعناب والنخيل والزيتون والرمان ... ، جرت الأحداث بسرعة وتتابع مُدهش، لا أعرف كيف ظهر لي فَتُّوح ابن الشَيْخ، قادني عبر ردهة البيت حيث النساء انشغلن بالخبيز، الفطائر الذهبية تتصاعد منها الأبخرة، رائحتها الطيبة تعبق الأجواء، أدخلني حجرة الحَضَرَة كما يسمونها وأحكم غلق الباب، الإضاءة شاحبة، أكاد لا أميز أحدا، رحب بي الشَيْخ المتصدر المجلِس، أفسح لي البعض مكانا للجلوس على حَشِيَّة، كان الحُضُورُ يجلسون على شكل حلقة يتوسطها ميخائيل، دعاه كذا الشَيْخ، يباشر ميخائيل مُعَالَجَة جَوْزة ضخمة مثبتة على قاعدة دوّارة ، يضع المعسل على أحجار كبيرة، طبقة من المُعَسَّل وطبقة من الحشيش، طبقات بعضُها فوق بعضٍ، وبجواره منقل فحم مُتَّقِد ، استفتح الشَيْخ، خافَتَ بصوته حَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُم جَهَرَ صَّوْتَه :
- ملعون شيخ النّار .، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، إلى عالم البرزخ والمثال توكلوا . ، حلّق الصمت فوق رؤوسنا، بدأ المَبْسِمُ يدور بيننا في نظام رتيب ...
سكت عُمر، أراح ظهره للوراء وأغمض عينيه هُنَيهه، ثُم اِعتَدَلَ واسْتَطْرَدَ :
- لم أدخّن في حياتي لا من قبل ولا من بعد حشيشاً بهذه النكهة وهذا التأثير، زنّ دماغي وسرى المُخَدِّر في جسدي كالنار في الهشيم، ما إن رفعت عينيي في حياء أتصفح الوجوه الباهتة خلال الدخان الذى لف المكان حتى بادر الشَيْخ وكأنه قرأ خاطري في تعريفي بالحضور واحداً تلو الآخر، كلما انتقلت ببصرى لأحدهم نطق باسمه، سلمان، ويتمتم الجُلاَّسُ جميعهم بتقديسٍ :
- رضى الله تعالى عنه.،
ابراهيم، ويتمتمون :
- عليه صلوات الله تعالى وسلامه،
حسن، وتتعالى الصلوات عليه وعلى أبيه وأمه وجده ..... ، وهكذا حتى انتهى بي، عُمر ... الفاروق رضى الله تعالى عنه، أصابني العَجَبُ وأسررت في نفسى : رضى الله تعالى عنه، فَاهَ الشَيْخ في الحال بقوله :
- هو ، ولا أنت ... أنت أنت ، وهو هو .
اِستبدَّ المخدر بي، وجدتني وَلَجَت في عالم أسطوري يُذهب بالعقل، طَمّت المكان أشباح الأرواح المُهيِّمة، استرسل الحديث الدائر بين الملائكة والرُسل والأنبياء والأولياء والصّحابة والتابعين وتابعي التابعين، وحقّ اليَقين كان حديثاً مُحكماً عجباً، تساجلَ الحُضُورِ يحاجّ بعضهم البعض، تُشرق مِنْ تَنَاظُرهِمْ أسراراً عًلوية لم أسمع بمثلها قط، ولم تخطر على قلبي، أسمع مُطَارحَتهم تارة بأذنيي وتارة أخرى تُبثُ في روعي بثاً ... لا أتذكر شيئاً منها الآن، عقلي تحول من بعد هذه الليلة إلى صفحة بيضاء، قطعت الحديث إشارة نَدَّت من يد الشَيْخ قائلاً ورأسه يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال :
- لا يدخل علينا في مثل هذه الساعة سواه، جلال .
جَمْجَمَ الجميع:
- جلّ وعلا شأنه.،
قام على إِثْرها فَتُّوح يترنح، يفتح الباب لرجلٍ رَبعة، أخذ مجلسه بجوار كمال الذي بَدَرتَ مِنْهُ آهة.،
دار المَبْسِمُ في فَلَكِه من جديد، أتعجله، التقفه بشغف وتَلَهُّف، امتصَّ الدخان وأخرجه من منخري غَزِيراً كثيفاً وكأني أدخن في آخر عُمرى .... جذبتني غَوَايَة الْفُضُولِ، رُحت أتأمل في نظرة شمولية جلال، الوافد الجديد، فإذا بي أراه يكبر، يتضخم ويتعاظم ... ملأ المكان بجِرمه، ضاقت على نفسي وضاقت على الأرض بما رحبت، ازدادت سخونة رأسي وبدأ جبيني يتفصد عرقاً، اهتز نصفي الأعلى كغصنٍ لَدْنٍ يرتج وآهات تفتح فكي رغما عنى، ناجيت ربي: يا مُفرّج كرب المكروبين، يا جبار المستجيرين، ياذا العرش المجيد.
، وإذ بفَتُّوح يمسك بكتفي يخضخضني، وهمس مُتهكِّماً:
- أنت انسطلت!
تأوه الشَيْخ وصاح:
- يا للنِّفَار!
ساد الصمت، جاهدت لأفتح عينيي ما استطعت، حدّقت في وجه فَتُّوح مَغيظاً، فبادرني مؤكداً بخفّة:
- انسطلت.
حالما فكرت في القِيام سارع الشَيْخ بلهجة آمرة:
- الزم غرزك.
غمغمت:
- غرز من؟! ... إِيهًا!
ملكني العصيان والعناد، نهضت من قعدتي اتطاوح تعجن قدماي الأرض عجناً وأخذت وجهتي للنَّافِذَةِ الوحيدة المؤصدة، تلاحقني صيحات الشَيْخ:
- مُتسلل لا يفلح ... ملعون شيخ النّار، وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.
، فتحت النَّافذة بعنف، انْبَثَقَت سُحُب الدخان حول رأسي تترى، مددت رأسي أعُبُ من الهواء النقي عباً، ثُم هتفت في القوم بصوتٍ أجَش:
- من أراد أن تثكله أمه فليتبعني.
، ولم أدر إلاّ وأنا اقفز من النَّافِذَةِ إلى الجنّة وأطلق ساقاي للريح.
سمير العَصَري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق