الخميس، 24 سبتمبر 2020

النساء في أقاصيصهن مقاربة نقدية بقلم الناقد محمد البنا

 النساء في أقاصيصهن

مقاربة نقدية
........
لا ينكر إلا جاحد، المكانة الأدبية لأربع قاصات تبوأن قمة السرد الأدبي للقصة القصيرة عربيًا في وقتنا الحالي، فهن - على أقل تقدير - لهن أربعة مقاعد بين أفضل عشرة قاصات عربيات.
سوريتان ومصريتان، أما السوريتان فهما الأستاذة صديقة صديق علي، والأستاذة كنانة عيسى، وأما المصريتان فهما الأستاذة أمل البنا، والأستاذة إيناس سيد جعيتم.
ومن حرصي على متابعة إبداعاتهم السردية، بل وفي محطات كثيرة ناقدًا لنصوصهن الرائعة، وأحتفظ في ذاكرتي ببعض نصوصهن، ومعظم نصوصهن رائعة، فمن منا لا يتذكر " فجر الطين"، " لست مجنونة" ل/ صديقة.
ومن منا لا يتذكر " متلازمة سكوت فيتزجيرالد"، " ولادة " ل / كنانة.
و" الفنار"، " الذباب" ل / أمل
و" قبر من زجاج"، " مشاهد من ذاكرة سوداء" ل / إيناس.
والآن بعد متابعة دقيقة، تكونت لدي قناعة شخصية، بتفاصيل نساء أقاصيصهن، وكيفية تعاملهن مع العوامل النفسية وانعكاسها على شخصيات بطلات ابداعتهم السردية. المرأة عند صديقة..امرأة مسكينة مغلوبة على أمرها، مقهورة، مظلومة دائما، خاضعة مستكينة، وعاجزة عن الدفاع عن نفسها، مستسلمة لقدرها.
والمرأة عند كنانة..قوية واثقة، لا تقبل الظلم، عادلة، تتصرف بطلاقة وفق مبادئ وأطر هى من حددتها.
والمرأة عند أمل..مظلومة صبورة صبر الجمال، تختزن الغضب كما يختزن الجمل الماء، ضعيفة وتدرك ضعفها لكنها تعزيه إلى مسببه ( الرجل )، امرأة تكره الرجال، ولا تكتفي بالكراهية، بل تسعى للانتقام وتخطط له وتنجح في تنفيذه.
والمرأة عند إيناس..امرأة ذكية تعرف قدرها ومكانتها السامية، وتعرف أنها في مجتمع ذكوري السيادة فيه للرجل، لكنها بذكائها تصنع من ضعفها قوة تُخضع الرجال.
L’image contient peut-être : 1 personne
L’image contient peut-être : 1 personne
L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan
Aucune description de photo disponible.

محاور ثلاثة وبنية تحتية إبحار نقدي بقلم / محمد البنا في نص " باب مغلق ونوافذ مفتوحة" للقاصة / أمل البنا

 محاور ثلاثة وبنية تحتية

إبحار نقدي
بقلم / محمد البنا
في نص
" باب مغلق ونوافذ مفتوحة"
للقاصة / أمل البنا
........
الوحدة / الفقد / الافتقاد..ثلاثة محاور اعتمدتها القاصة كبنية لنصها النفسي بامتياز.
نصٌ جمع بين الهلاوس البصرية والسمعية ليشكلا معًا مشهديةٍ سوداء في ليلةٍ حالكة، بين جدرانٍ متصدعة، وبابٍ مفتوحٍ ذي اتجاهٍ واحد، ألا وهو اتجاه الخروج، وياله من خروج، إنه خروجٌ أبدي، خروجٌ بلا عودة، فلا يترك خلفه أثرًا إلا الوحدة، وحدة نفسٍ معتمة تقتات الوهم، وتحمله جنينًا بين جنبيها، وتتجاوز الواقع فتصنع من الوهم خلقًا تفتقده، فتنسجه ماثلًا أمامها، تحاوره ويحاورها حديثًا جديدًا متجددا، وليس اجترار ذكرى فقط.
مشهد شديد القتامة يشع نوره سوادًا فوق سواد، حتى الشمعة الوحيدة أطفأتها.
مشهد يتحسسه المتلقي بيديه وعينيه ومخيلته وروحه.
بابٌ مفتوح ونوافذ مغلقة..إن فُتحت يعبرها الموت في كلا الاتجاهين...الداخل أزيز طائرات تقصف، وقنابل تدوي، ودمار يعقبه دمار، والخارج قتلى بلا ذنب، سيان طفلًا أو صغار قطط..إنها قسوة الفقد ومرارتها، تلك المعادلة الغرائبية..مات ولدي فليموتون هم أيضًا بلا ذنب كما مات خالد بلا ذنب، معادلة اليأس وعدمية الأمل في انبثاق فجر.
نصٌ جمع الشتات على البقايا، شتات ما تبقى من نفسٍ محطمة، وما تبقى إلا لوثة وبعض وعي، فصنع من الوهم توهما..جسدًا يتنفس ويتحرك، ومن بقايا الذكرى أحاديثا، ليشكلا معًا واقعًا متوهمًا، مسموعًا ومرئيا، حيث انصهر الوعي واللاوعي في بوتقةٍ حوافها وحدة، وقاعها فقد، وجدرانها افتقاد.
ما أروعك يا أمل، وأنت ترسمين بريشةٍ سوداء، ولونٍ أسود جدارية على لوحةٍ سوداء، فنرى ونسمع ونحس.
محمد البنا...٢٢سبتمبر ٢٠٢٠
... ...... ..
النص
......
بابٌ مفتوح ونوافذ مغلقة
فى لحظات خِلته ينهض من جوارى. ظل متسمراً مكانه لحظات.. كان الظلام حائلاً لأن يدرك أننى قد انتبهت إليه، غير أنه فاجأنى بقوله: سأرحل الآن
_.. فى هذا الوقت من الليل!!.. هل تَعدنى بالعودة سريعاً؟
_ ربما تجديننى غداً جالساً فوق المقعد الخشبى بين الشجرتين
_ أنا أمقت تلك اللعبة التى تجيدها فى إظهار مهارات البزوغ والاختباء كيفما تريد.. لمَ لاتنتفض لآلامى وتنتشل الفراغ من قلبى. بل لمَ لم تعد الحياة كسابق عهدها، وتعزف كما حدث بالماضى فى الحجرة المجاورة ألحاننا
_ شوبرت.. كنتِ تفضلين سماعه
_..ربما كانت هناك الكثير من الألحان التى لم تُعيدها على أذنى، والتى لم يبق منها سوى أصداءٌ تملأ البيت والغرفة وحشة
_ ياللشيطان!، ياللشيطان!، لمَ تنسين أنكِ قد بعتِ أثاث تلك الغرفة وأغلقتها إلى الأبد؟!
_ كذب، فأنا لم أغلقها إلا خشية انهيار الجدار المتصدع بها
_ سأمضى الآن، فياله من حديث قبل الرحيل
_ حسناً.لا تغضب أرجوك، دعنى على الأقل أودعك وأمضى معك إلى الباب
_ الظلام حالك ولا أثر للضوء كما تعرفين
_ دعنى أبسط يدى وأصل إليك، فربما يساعدنى هذا لاحتمال لحظات انتظارى لك
_ ..هل لديكِ كشافٌ أو شمعةٌ نضيئها؟
_ لا. دعنى أتعلق بكتفك..هكذا، ونرحل ونحن نتلمس الأشياء و نتجاوز العثرات تحت أقدامنا
_ ما تقومين به لهو عملٍ جنونى .
_ وكيف ترانا الآن؟!، وقد يظن من يسمعنا أننا شبحان يتناجيان، وربما يتواعدان فى ليلة باردة لا قمر بها
_ كيفما تريدين.. يالشعركِ الأشعث !!
_ ها قد بدأت سخريتك منى
_ لا، أقسم لكِ، غير أن جدائلك جافة ويبدو أنكِ لم تمشطيها منذ فترة طويلة
_ تعلم أن الماء مقطوع، وأنه من الصعب الحصول حتى على القليل منه، وقد أخبرتك بهذا من قبل غير أنك دائما تُجيد استفزازى
_ حقا. فالدهشة والظلام أحياناً تنسيانكِ الملاحظات المكررة
_.. نحن نجتاز باب الحجرة الآن.. أتَذَكَّر العناق والقبلات التى أمطر زوجى وجهى بها فى تلك الليلة التى سبقت الغارة الجوية على بلدتنا.. كنتُ على يقين بأن هناك شيئاً ما سوف يحدث، وأننا نقتنص لحظات قد لا يهبها القدر مرة أخرى.
_ أوه !!، قدمى
_ ماذا بكَ ؟
_ يبدو أننى قد وطأت شيئاً مكسوراً
_ معذرة، فقد أهملتُ في جمع بعض الأشياء المحطمة.. هل ما زالت تؤلمك ؟
_ التَوتْ قليلاً، غير أننى يمكننى مواصلة السير
_ أتذكر خالد ابن السيدة فادية الذى حضرنا عقيقته منذ سبعة أعوام ؟
_ نعم.
_ قالوا أنهم عثروا على رفات طفل وفى قدميه حذاء رجل
_ أكان هو ؟
_ ربما، فقد كان محباً لكل متعلقات والده رحِمةُ الله.
_ ياللمسكين.. أرجو أن لا تشغلكِ الأحزان عن أحوالك
_ أمسك يدى جيداً
_ ماذا هناك ؟
_ يبدو أن ماء المطر تسرب مجدداً من السقف، وقدمى قد غاصت فى بركةٍ منه، ألا تشعر بها ؟
_ ربما لأننى أرتدى حذاء برقبةٍ طويلة
_ حتى وإن كنت تلبس حذاءً يحميك، فإن صوت الماء واضح وكان عليكَ أن تنبهنى
_ يشغلنى الحديث معكِ أكثر من أى شىء آخر
_ حتى وإن كنتُ أتعرض للخطر ؟!
_ اقبلى عذرى ولا تلومينى، فأنا لا أُجيدُ حقاً الاعتذار ..
_ ..المطر يأتى رغماً عن طائراتهم التى قصفت محطات المياه. يريدون قتلنا، و رغم هذا تجود السماء بالماء وتوزعه على الأرض من جديد. ياللقطة الملعونة !!
_ ماذا جرى ؟
_ أصابت قدمى وهى تقفز بعيداً عن بركة المياه تلك.
_ هل تأذيتِ ؟
_ قليلاً. فربما قد بَدَأَتْ تتحين الفرص لتنتقم منى
_ تنتقم منكِ !، لماذا ؟
_ لأننى ألقيت بصغارها يوماً. لم أحتمل كل هذا العدد وهذا الضجيج، فأخذت بإلتقاطهم وهم يتشبثون بأظافرهم الناعمة بالوسادة، وألقيت بهم من النافذة، بينما كانت تنظر لى بعين الأم الحاقدة التى غيبت عنها أولادها إلى الأبد؛ لتموء إلى جوار تلك النافذة لأسابيع وكأنها تنتظر أن يستجيبوا لصوتها
_ يالقسوتكِ !
_ كيف أشرح لكَ هذا ؟، فأنا لا أحتمل الزيادات المفرطة فى أى شىء
_ وهل كانوا أشياءً ؟!
_ بالنسبة لى. فهل هذا يريحك .؟
_ إنها مخلوقات أليفة
_ نعم. كائنات تتكاثر وتعيش
_ مثلك !!
_ ماذا تعنى بتلك المقارنة ؟
_أزعجتكِ، كما أزعجتكِ أصواتهم وأعدادهم التى قد تتضاعف بعد ذلك ؟
_ نعم .
_ ألا ترين أنكِ قد عاديتِ الطبيعة وقانونها وقمتِ بدور من بيده أمر كل شىء
_ قطة واحدة كان لا بأس بها. ثم أننى إنسانة لها أفكارها الخاصة التى قد تخطىء.
_ هل كنتِ ستسعين إلى تكرار هذا إذا ما أنجبت قطتك مرة أخرى ؟
_ .. ربما
_ ليست هذه بإجابة واضحة
_ .. نعم كنتُ سأكرر هذا
_ رغم أنكِ تعترفين بأنه قد يكون خطأً
_ أجل، فقد أخبرتك أننى لا أحتمل الزيادات والإفراط فى أى شىء
_ وهل هذا يُعد مبررا ًلأن يقضى عِرقٌ بشرى على آخر، إذا كانت تلك الفكرة هى السائدة
_ الأمر هنا يختلف، وأنتَ تعلم أنه يختلف تماماً
_ ليس كثيراً، فالأقوى فى كلا الحالتين هو من يملك النهايات. غير أن الإنسان يمكنه الدفاع عن نفسه، وربما يجد من يطالبون بحمايته، بل حتى قد يجد من يقتص له . بينما هذه القطة البائسة، كنتِ أنتِ الشاهدة الوحيدة على نياط قلبها الممزقة، فليس هناك من يدافع عنها، أو حتى قد يقاضيكِ على قتل صغارها .
_.. يبدو أنك تكرهنى الآن.. أشعر بهذا رغم الظلام الذى يمحو كل شىء
_ ليس لى أن أكرهك.. يبدو أننا قد وصلنا الباب
_ إنه يعاند الفتح دوماً معى
_ دعى الأمر لى.. ها ، قد فُتح
_ حتى فى الظلام تمتلك قدراتٍ خاصة
_ ليست كما تظنين .
_ أمسك يدى جيدا، وعدنى أنك ستسرع بالعودة إلىَّ
_ اعتنى بنفسك جيداً يا فادية ...
تُراقب الفضاء اللانهائى. بينما قذائف الطائرات تُلقى ظلالاً فوق الأطلال حوالها.
أمل البنا.

L’image contient peut-être : 1 personne
L’image contient peut-être : 2 personnes, gros plan

حينما يتم فتح النوافذ المغلقة على مصراعيها قراءة خاصة بقلم / كنانة عيسى لنص" باب مفتوح ونوافذ مفلقة" للقاصة / أمل البنا

حينما يتم فتح النوافذ المغلقة على مصراعيها
قراءة خاصة
بقلم / كنانة عيسى
لنص" باب مفتوح ونوافذ مفلقة"
للقاصة / أمل البنا
.............
وهل يمكن لقاصة فذة مثل الأديبة أمل البنا ألا تفتح عوالم الريبة والشك والتقريع لظلم الحياة وقسوتها ؟في نص قوطي بامتياز تفتّح عن مخزون القلق المتوارث فينا وانعكاساته على الروح و وجوديتها ، ومن ثم استقصاءَ يقين لا نصله بسطوة الحواس إنما بتماه غير علني لصراع الظاهر والباطن
لملهاة الحب بين رجل وامرأة يرقصان فيما يشبه الحياة لينجوا من العدم والفناء. وتنثبر في أذهاننا تلك الأسئلة الكثيرة، من الميت ومن الذي ما زال حيًا؟ هل هي قصة أشباح عنيدة لا سكون لآلامها وأنينها؟ أم هو التعلق بأنقاض من نخشى فقدناهم بفقدان ما يحبون؟ إنه ذلك السبر الفذ لعالم ما ورائيات الطبيعة الذي يخلق إضاءة حول ملامح شخصيات استثنائية لا تنسى.
تبدأ الكاتبة الاستهلال بخلق مشهدية متأزمة تبنيها الأفعال الماضية المرسومة بدقة متناهية لخلق هامش زمني محدد، (خلته ينهض من جواري)، (ظل متسمرا مكانه) (كان الظلام حالكا)
وينبثق الحوار المدهش بين كائنين ندرك من تفرد شخصياتهما ، دفق العاطفة المنسكبة بعذوبة وغموض فهما ذكر وأنثى،. لعلهما زوجان أو حبيبان . فهما يشدان القارئ بجدلهما العشقي . نحن في لهفة لاستحواذ مصير مجهول سيرفع من قدر وجودهما الضبابي بكل تفاصيله كتبصر سوداوي، أو كنبوءة أسطورية تشدنا نحن إلى عالم محفوف بالخوف واليقظة
فهو الذي لا (يجيد الاعتذار ) يأتي ويرحل كل يوم، بحذائه ذي الساق الطويلة، ويغمرها بالشوق والحب والجدل المحبب،. ويسألها عن أحوالها(أرجو ألا يشغلك الحزن عن أحوالك) ،. يذكرها بما تحب من موسيقى عزفها لها قبلًا، ويصغي إلى حكاياتها وهواجسها و أوهامها بصبر العارف الحاني، بل ويؤنبها بمنطق الصابر على ما تغير بحالها ( يالشعركِ الأشعث) .. ،فهو المرشد في الظلام، وهو المصغي بود ورأفة، وهو السند حتى في غرائبية حضوره و وعيه النوراني ، ينير دربها في الظلام برفق ، ويرصد جنونها بقدسية ويفتح لها الأبواب التي أغلقتها دموية الحروب بالموت والعجز ، معتنيًا بروحها الجريحة بجلالٍ واسترسالٍ، كأنها آلهة قديمة وليست امرأة مجنونة خذلتها الحياة حزنا وفقدًا. .
و تتواشج علاقة الحب هذه مع إسقاط مجتمعي لآلام الحروب ونقمتها كما نرى من مشهدية المكان المدمر.
ّ فنرى وضوحًا مفاجئًا في وعي الساردة ونقاءً عقليًا آنيا يفسر الحاضر بجزءٍ من الماضي ، نرى تلك الأنوثة الرقيقة في هيئة الحب، وهيئة الأمومة وهيئة التذرع الوجداني بفهم ماهية موت الطفل (خالد ) التراجيدي الطقسي والذي يرمز لموت الأمل وقتل المستقبل

قالوا أنهم عثروا على رفات طفل وفى قدميه حذاء رجل

أتَذَكَّر العناق والقبلات التى أمطر زوجى وجهى بها فى تلك الليلة التى سبقت الغارة الجوية على بلدتنا.

ثم تربط الكاتبة الشخصيتين الأساسيتين بحوار فلسفي حول قتل الهررة غرضه تجريم الدائرة الإنسانية الأكثر اتساعا، لم تقتلُ المرأة التي تشرق بالحب وتعشق الموسيقى القطط الصغيرة؟ كيف
يمكن لمنطق (الزيادات المفرطة) أن يكون مبررا إنسانيًا لقتل براءة الطفولة؟ . الحوار السردي هنا هو اتهام ضمني لمبرر الحروب الدامية التي تنجو من المحاكمة بمنطق الجلاد لا الضحية
نعم. كائنات تتكاثر وتعيش
_ مثلك
. ولخلق مفارقة في السرد، جعلت الكاتبة شخصية فادية المفجوعة هي من تتبنى رؤية ( الأقوى هو من يمتلك النهايات)

قد نظن لوهلة أننا أمام نص قصصي رشيق لفيرجينيا ولف، أو أمام نكهة روائية سوداوية شيقة كأسلوب الروائية البريطانية السباقة في الأدب القوطي ماري شيلي، أو حتى مثل فيلم (الحاسة السادسة) النفسي الشهير للمخرج نايت شايميلان، حيث ينفصم المتوفى عن هوية وجوده في الواقع كشبح، يعجز عن ادراك حقيقة وجوده الرمزي المؤقت في الحياة. لكننا أمام إبداع كاتبة خلابة صنعت شخصية فادية بتأن وتناقض ودعة.
فهي تلك الشخصية الغامضة التي تحتمل الكثير من التأويل والرفض و الهلع والنقمة. سقوطها التراجيدي أمام حياتها وسط أنقاض بيت مهجور، متفاقمة بحزن الفقدان لدرجة الإنكار و التوهم. منتصبة كأيقونة نمطية لنصوص الأدب القروسطي ، الذي يتبجح بتضاد العناصر
بهمجية ورعونة مثل الذكورة والأنوثة، الحب والحرب، الموت والحياة. وكما أننا لن ننسى شخصية الشاعر فرجيل في الكوميديا الإلهية، أو شخصية الليدي ماكبث. فإننا لن ننسى شخصية فادية التي فقدت انتمائها العقلي أمام موت ابنها (خالد) الطفل الصغير وزوجها الحبيب لتفتح كل النوافذ المغلقة إلى فضاءات عقلها المضطرب هروبًا من ظلمة واقع قهري صادم.
إبداع مذهل.
دام مداد الكاتبة الرائعة أمل البنا.
كنانة عيسى..٢٢ سبتمبر٢٠٢٠.....kinana eissa
...............
النص
......
بابٌ مفتوح ونوافذ مغلقة
فى لحظات خِلته ينهض من جوارى. ظل متسمراً مكانه لحظات.. كان الظلام حائلاً لأن يدرك أننى قد انتبهت إليه، غير أنه فاجأنى بقوله: سأرحل الآن
_.. فى هذا الوقت من الليل!!.. هل تَعدنى بالعودة سريعاً؟
_ ربما تجديننى غداً جالساً فوق المقعد الخشبى بين الشجرتين
_ أنا أمقت تلك اللعبة التى تجيدها فى إظهار مهارات البزوغ والاختباء كيفما تريد.. لمَ لاتنتفض لآلامى وتنتشل الفراغ من قلبى. بل لمَ لم تعد الحياة كسابق عهدها، وتعزف كما حدث بالماضى فى الحجرة المجاورة ألحاننا
_ شوبرت.. كنتِ تفضلين سماعه
_..ربما كانت هناك الكثير من الألحان التى لم تُعيدها على أذنى، والتى لم يبق منها سوى أصداءٌ تملأ البيت والغرفة وحشة
_ ياللشيطان!، ياللشيطان!، لمَ تنسين أنكِ قد بعتِ أثاث تلك الغرفة وأغلقتها إلى الأبد؟!
_ كذب، فأنا لم أغلقها إلا خشية انهيار الجدار المتصدع بها
_ سأمضى الآن، فياله من حديث قبل الرحيل
_ حسناً.لا تغضب أرجوك، دعنى على الأقل أودعك وأمضى معك إلى الباب
_ الظلام حالك ولا أثر للضوء كما تعرفين
_ دعنى أبسط يدى وأصل إليك، فربما يساعدنى هذا لاحتمال لحظات انتظارى لك
_ ..هل لديكِ كشافٌ أو شمعةٌ نضيئها؟
_ لا. دعنى أتعلق بكتفك..هكذا، ونرحل ونحن نتلمس الأشياء و نتجاوز العثرات تحت أقدامنا
_ ما تقومين به لهو عملٍ جنونى .
_ وكيف ترانا الآن؟!، وقد يظن من يسمعنا أننا شبحان يتناجيان، وربما يتواعدان فى ليلة باردة لا قمر بها
_ كيفما تريدين.. يالشعركِ الأشعث !!
_ ها قد بدأت سخريتك منى
_ لا، أقسم لكِ، غير أن جدائلك جافة ويبدو أنكِ لم تمشطيها منذ فترة طويلة
_ تعلم أن الماء مقطوع، وأنه من الصعب الحصول حتى على القليل منه، وقد أخبرتك بهذا من قبل غير أنك دائما تُجيد استفزازى
_ حقا. فالدهشة والظلام أحياناً تنسيانكِ الملاحظات المكررة
_.. نحن نجتاز باب الحجرة الآن.. أتَذَكَّر العناق والقبلات التى أمطر زوجى وجهى بها فى تلك الليلة التى سبقت الغارة الجوية على بلدتنا.. كنتُ على يقين بأن هناك شيئاً ما سوف يحدث، وأننا نقتنص لحظات قد لا يهبها القدر مرة أخرى.
_ أوه !!، قدمى
_ ماذا بكَ ؟
_ يبدو أننى قد وطأت شيئاً مكسوراً
_ معذرة، فقد أهملتُ في جمع بعض الأشياء المحطمة.. هل ما زالت تؤلمك ؟
_ التَوتْ قليلاً، غير أننى يمكننى مواصلة السير
_ أتذكر خالد ابن السيدة فادية الذى حضرنا عقيقته منذ سبعة أعوام ؟
_ نعم.
_ قالوا أنهم عثروا على رفات طفل وفى قدميه حذاء رجل
_ أكان هو ؟
_ ربما، فقد كان محباً لكل متعلقات والده رحِمةُ الله.
_ ياللمسكين.. أرجو أن لا تشغلكِ الأحزان عن أحوالك
_ أمسك يدى جيداً
_ ماذا هناك ؟
_ يبدو أن ماء المطر تسرب مجدداً من السقف، وقدمى قد غاصت فى بركةٍ منه، ألا تشعر بها ؟
_ ربما لأننى أرتدى حذاء برقبةٍ طويلة
_ حتى وإن كنت تلبس حذاءً يحميك، فإن صوت الماء واضح وكان عليكَ أن تنبهنى
_ يشغلنى الحديث معكِ أكثر من أى شىء آخر
_ حتى وإن كنتُ أتعرض للخطر ؟!
_ اقبلى عذرى ولا تلومينى، فأنا لا أُجيدُ حقاً الاعتذار ..
_ ..المطر يأتى رغماً عن طائراتهم التى قصفت محطات المياه. يريدون قتلنا، و رغم هذا تجود السماء بالماء وتوزعه على الأرض من جديد. ياللقطة الملعونة !!
_ ماذا جرى ؟
_ أصابت قدمى وهى تقفز بعيداً عن بركة المياه تلك.
_ هل تأذيتِ ؟
_ قليلاً. فربما قد بَدَأَتْ تتحين الفرص لتنتقم منى
_ تنتقم منكِ !، لماذا ؟
_ لأننى ألقيت بصغارها يوماً. لم أحتمل كل هذا العدد وهذا الضجيج، فأخذت بإلتقاطهم وهم يتشبثون بأظافرهم الناعمة بالوسادة، وألقيت بهم من النافذة، بينما كانت تنظر لى بعين الأم الحاقدة التى غيبت عنها أولادها إلى الأبد؛ لتموء إلى جوار تلك النافذة لأسابيع وكأنها تنتظر أن يستجيبوا لصوتها
_ يالقسوتكِ !
_ كيف أشرح لكَ هذا ؟، فأنا لا أحتمل الزيادات المفرطة فى أى شىء
_ وهل كانوا أشياءً ؟!
_ بالنسبة لى. فهل هذا يريحك .؟
_ إنها مخلوقات أليفة
_ نعم. كائنات تتكاثر وتعيش
_ مثلك !!
_ ماذا تعنى بتلك المقارنة ؟
_أزعجتكِ، كما أزعجتكِ أصواتهم وأعدادهم التى قد تتضاعف بعد ذلك ؟
_ نعم .
_ ألا ترين أنكِ قد عاديتِ الطبيعة وقانونها وقمتِ بدور من بيده أمر كل شىء
_ قطة واحدة كان لا بأس بها. ثم أننى إنسانة لها أفكارها الخاصة التى قد تخطىء.
_ هل كنتِ ستسعين إلى تكرار هذا إذا ما أنجبت قطتك مرة أخرى ؟
_ .. ربما
_ ليست هذه بإجابة واضحة
_ .. نعم كنتُ سأكرر هذا
_ رغم أنكِ تعترفين بأنه قد يكون خطأً
_ أجل، فقد أخبرتك أننى لا أحتمل الزيادات والإفراط فى أى شىء
_ وهل هذا يُعد مبررا ًلأن يقضى عِرقٌ بشرى على آخر، إذا كانت تلك الفكرة هى السائدة
_ الأمر هنا يختلف، وأنتَ تعلم أنه يختلف تماماً
_ ليس كثيراً، فالأقوى فى كلا الحالتين هو من يملك النهايات. غير أن الإنسان يمكنه الدفاع عن نفسه، وربما يجد من يطالبون بحمايته، بل حتى قد يجد من يقتص له . بينما هذه القطة البائسة، كنتِ أنتِ الشاهدة الوحيدة على نياط قلبها الممزقة، فليس هناك من يدافع عنها، أو حتى قد يقاضيكِ على قتل صغارها .
_.. يبدو أنك تكرهنى الآن.. أشعر بهذا رغم الظلام الذى يمحو كل شىء
_ ليس لى أن أكرهك.. يبدو أننا قد وصلنا الباب
_ إنه يعاند الفتح دوماً معى
_ دعى الأمر لى.. ها ، قد فُتح
_ حتى فى الظلام تمتلك قدراتٍ خاصة
_ ليست كما تظنين .
_ أمسك يدى جيدا، وعدنى أنك ستسرع بالعودة إلىَّ
_ اعتنى بنفسك جيداً يا فادية ...
تُراقب الفضاء اللانهائى. بينما قذائف الطائرات تُلقى ظلالاً فوق الأطلال حوالها
امل البنا.

L’image contient peut-être : 1 personne
L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan

الأحد، 20 سبتمبر 2020

الجزء التاسع من المقال النقدي "خصائص المنهج النقدي عند طه حسين" من خلال حديث الاربعاء بقلم الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي

 الجزء التاسع من المقال النقدي "خصائص المنهج النقدي عند طه حسين" من خلال حديث الاربعاء

نظرية الشك عند طه حسين
ترتبط نظرية الشك عند "طه حسين" في رأينا بمسألة طريقته في قراءة النصوص الأدبية القديمة والجديدة وتقبلها او التعامل معها وتلك مسألة متعلقة بمنهجية "طه حسين" في نقد تلك النصوص وتحليلها وتقويمها،فقد تأثر، مثلما أكدنا في الأجزاء، السابقة في دراساته النقدية بالمناهج الاوروبية التي "تمنح الذات المبدعة في بعديها الفردي والاجتماعي مكانة كبيرة وهي تسعى إلى إبراز أثر الوسط الإجتماعي في الإبداع الأدبي وترمي، إلى فهم العبقريات الفذة في صلتها بروائعها الأدبية" (انظر حسين الواد :"قراءات في مناهج الدراسات الأدبية ص 40)
ثم لا يفوتنا ان" طه حسين" وأصحاب الديوان ونعيمة قد أقاموا ثورة على المنهج البلاغي في النقد وكان "طه حسين" كما قال حسين الواد "من أبرز الوجوه التي حملت لواء التمرد على النقد البلاغي" وقد تلك الحملة معبرة عن ثورته على المناهج العقيمة في نقد الأدب ودراسته في رأيه، كالمتهج الانطباعي الذوقي والمنهج التاريخي وعبر عن ذلك بقوله " إن الذين عاصروا أبا نواس وجاؤوا بعده من الأدباء والشعراء وائمة اللغة لم يكن لهم في النقد مذهب معروف او خطة واحدة إننا نستطيع، أن نقول إن أدبنا العربي يخلو أو يكاد من النقد الصحيح خلوا تاما" ( انظر حديث،الاربعاء ج2 ص/ص 50/51)
والنقد الصحيح الذي يقصده "طه حسين " هو الذي يقوم على منهج معين وهو منهج عرفه بقوله" الام تقصد إذا عرضت لشاعر من الشعراء وأردت أن تقرأ شعره وتفهمه ثم تنقده تقصد فيما أظن إلى أشياء :الأول :أن تصل إلى شخصية الشاعر فتفهمها وتحيط بدقائق نفسه ما استطعت والثاني: أن تتخذ، هذه الشخصية وما يؤلفها، من عواطف وميول وأهواء وسيلة إلى فهم العصر الذي عاش فيه هذا الشاعر والبيئة التي، خضع لها هذا الشاعر والجنسية التي نجم منها هذا الشاعر فأنت لا تقصد إلى فهم الشاعر لنفسه وإنما إلى فهم الشاعر من حيث هو صورة من صور الجماعة التي يعيش فيها"( حديث، الاربعاء ج 2 ص 52)
لقد وضع" طه حسين " أساسا لنقده وهو" المنهج الديكارتي " المعتمد على الشك، سبيلا لدراسة النصوص، الأدبية ونقدها وحاول تطبيق هذا المنهج في دراساته الأدبية لا سيما في كتابه" في الشعر الجاهلي " 1926 فوقف موقف الشك من الروايات والأحكام ورفض، النظريات القديمة وبرأ دراسة الأدب من العوامل العصبية والمذهبية ولفت النظر الى نحل الرواة ووضع النحاة وتكلف القصص واختراع المحدثين والمحدثين والمتكلمين ونادى بوجوب إعادة النظر في دراسة الأدب القديم وألا نقبل منه شيئا الا بعد الروية والتأمل والتثبت والتحقيق لذلك جعل الشك، وسيلة لتعقب، صحة النصوص،الشعرية المنقولة عن شعراء معينين في "حديث الاربعاء" فكان منهجه في رصد حياة بعض، الشعراء عندما تعوزه الأدلة القاطعة في الروايات التي تناقلها المؤرخون للأدب العربي القديم لذا آمن بدور المنهج الديكارتي في البحث عن حقيقة الأدب واستخراج زيفه ولو أدى به ذلك إلى سخط الناس فأكد على أنها
رسالة شاقة ولا بد من أدائها مهما تكن العقبات لذا لم يخف عدم اطمئنانه إلى بعض الروايات المنقولة عن حياة بعض الشعراء كما بينا من قبيل ما نقله الرواة عن
"لبيد" إذ قالوا "إنه قد أعرض عن الشعر اعراضا بعد الإسلام ويغلو بعضهم، فيزعم أنه لم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا من الشعر وهو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى اكتسبت من الإسلام سربالا
ولست اخفي عليك أن اطمئناني إلى هذه القصة ليس تاما فسترى أن الرواة يضيفون إلى" لبيد" شعرا إن صح، فقد كان "لبيد" إذن يقول الشعر في، الإسلام وان صحت هذه القصة فقد كان الرواة إذن يكذبون على "لبيد" وأذن فما يمنعهم أن يكذبوا على غيره من الجاهليين والإسلاميين" ( حديث،الاربعاء ج 1 ص 46)
يتبع
(الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي)

L’image contient peut-être : 1 personne, lunettes et gros plan

قراءة سريعة في حَضْرَةِ الحَشَّاشين للكاتب سمير العَصَري بقلم / محمد البنا

 قراءة سريعة في حَضْرَةِ الحَشَّاشين للكاتب سمير العَصَري

بقلم / محمد البنا
.................
يباغتنا الكاتب الحصيف بشيخ الحشاشين ووبيته المحاط بالجنان( قلعة الجبل )، وحضرة من حضرات إحدى الطرق الصوفية، وأحسب أنها الطريقة البرهانية وشيخها محمد عثمان البرهاني- كنت أحد متابعيها زمنًا ما-، وحضرة الليلة ( الخميس ) يحل فيها الانبياء والصحابة في الحضور، فيتكلم الحضور نيابة عنهم وباسمائهم، وبأحاديثهم المأثورة عنهم، ويزيدون بإرهاصات مستقبلية، ولنقل على وجه الدقة خطط مستقبلية تُسيّر العالم، ولكني - لا في هذه الحضرة، ولا في غيره تمثلَ للحضور جلال ولا حل في أحدهم، وأحسب أن ذلك تضخيمًا من الكاتب آمعانًا في السخرية والتهكم على هكذا حضرات وعلى هكذا حضور.
نص ساخر تناص مع ما يُشاع عن الطائفة الإسماعيلية، وتخصيصها لفرقة اغتيالات مقرها قلعة الجبل، حيث الخمر والحشيش والنساء متاع للمقاتلين ومكافأة لقيامهم بما يكلفون به من أعمال، وتناص آخر مع قول الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه( من يريد أن تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الجبل ) حين أزمع الهجرة من مكة إلى المدينة.
والتناص الرئيس هو ما أسلفت ذكره بدايةً عن الحضرة الصوفية، أحل فيها كاتبنا ( ساخرًا ومتهكمًا وناكرًا ) تعاطي الحشيش محل ذكر الله، مبديًا رفضه المباشر والصريح لكل الطرق الصوفية، وسكوته عن تعاطي المحرم ( الحشيش )، فقد تعاطاه الراوي وتعاطاه عمر، وتعاطاه أهل الحضرة ( حشيش ذو جودة عالية )، ولم ينكره عليهم، ولا اعتداد بقول فتوح له ( انسطلت ) كمكافئ ضمني للرفض.
أقول هذا ما يقوله النص كفكرة ولغة وسرد ومعالجة، ولا يعني ذلك ارتباطًا بأي شكل بمعتقد الكاتب.
بل هى فكرة رأي فيها ما أبدعه، ووفق تماما في طرحها..لغة(ساخرة تهكمية )، سرد متقن، حبكة جيدة، ومعالجة ناجعة، وخاتمة خفيفة باعثة على الابتسام، إلا أنّ هناك اسمًا واحدًا لم أر له نظيرًا يحل فيه ( كمال )، وعدم ذكره أصلا لا ينتقص من النص شيئا.
محمد البنا...١٧ سبتمبر ٢٠٢٠
............
النص
.........
في حضرة الحشاشين
Samir Asaer
.........
تطلّع من البَلكون بعد بُرْهَة من صفيري، أشار لأصعد إليه، حمدت اللهَ لعدم إعْرَاضِهِ عنى هذه المرة، لم يكُن عُمر ليستقبل في شقته من أصدقائه أحداً سواي، لا أحدٌ يعرف على وجه اليقين ما ألمّ به، اِنزَوَى بعيداً عن الناس مُقيماً بخَلْوته مُنكفِئًا على أمهات كتب التصوف مُقبلاً عليها بكليته لا يصرفه عنها شيء. ﺃﺴﺭعت أﻘﻔﺯ ﺩﺭﺠﺎﺕ ﺍﻟﺴﻠﻡ مثنى ﻭﺜﻼﺙ، فتح لي الباب وسبقني للداخل، أَغْلَقت الباب وتبعته، الغرفة مُعبأة برائحة الحشيش، مازالت على حالها الكتب والمجلدات مُبعثرة تفترش الأمكنة، ألقيت بصري نحوها، مخطوطات عجيبة في أسمائها وأسماء أصحابها، عنقاء مغرب، الطواسين، خلع النعلين، هياكل النور ....، الحكيم الترمذي، السهرَوردي، الحلاّج، ابن مسرة، ابن قسي، ابن عربي، ابن العريف ....
تمتمت:
- ابن الهرمة. اِلتفت إلىّ، فبادرت مُمازِحاً:
- ينقصك مخطوطٌ لابن الهرمة.
نظر إلىَّ طويلاً نظرة اضطربت لها، ثُم قال بهدوء:
- لا أحب شعر ابن هَرْمَة.
هالني عدد السجائر المُطفأة في المنفضة وقد ثبَّتُ نظري عليها، مد يده لي بسيجارة مَحْشُوّة وتمتم مُعتذرًا:
- آخِر الزَّاد.
داعبته بقولي:
- فلنذهب لمولد الشَيْخ مُحَمّد أبو الجنّة، اليوم ليلته الختامية، نُكمل السهرة، فقد نجد هناك ما نعوزه من أنفاس.
اِنتفض ورفع رأسه عن المخطوط الذي يُطالعه وقال بسرعة:
- أبو الجنّة، قَدّس اللهُ سِره، قَدّس اللهُ سِره.
تمتمت باستنكار:
- قَدّس اللهُ سِره ؟!، هذا المُشعوذ، الحشَّاش!
اِلتَفَتَ بَاسِماً إلى السيجارة المَحْشُوّة بيدي، قلت مُتحرّجاً:
- عفواً.
نكّس رأسَه وطال الصمت بيننا، ثم قال:
- سأحدثك حديثاً ما سمعه منٍّى أحدٌ قط، وما سمعت أذناك أعجب منه، ولا أعرف حتى الآن أكان حقيقةً أو خيالا، ولا تقاطعني حتى أفرغ منه. أومأت رأسي بالإيجاب وأنا أدخن في هدوء وصمت وقد ساورني الشك في بعض ما أشيع عنه من غرابة أطواره، وما كُنت لأقاطعه الحديثَ وقد آن له البوح ببعض ما يحبسه في صدره ، قال بعد برهة صمت وتردد :
- عرفت الشَيْخ أبو الجنّة في حياته قبل مماته بأسابيع قليلة، قابلته أول مرة عند صاحبنا تيسير رَحِمَهُ الله، كُنّا جلوساً ندخن بعض السجائر المَحْشُوّة، وكان الشَيْخ أبو الجنّة يجلس في ركن الحجرة يرقبنا في صمت، أكاد لا أنتبه لوجوده أو أُعيره انتباهاً إلاّ بعد أن قام من جِلْسته وقال بصوت هاديْ قطع علينا تضاحكنا ومرحنا :
- أنتم تشربون حَشيشَة الفقراء غلط ... غلط . ، وراح من فوره يتهادى إلى باب الخروج، التفت فجأة ناحيتي يخاطبني :
- يا عُمر ، لك منى دعوة مفتوحة، في ليلةٍ زهراء ، بعد صلاة العشاء بساعة لا أكثر .
، تعجبت من قوله، طَبطَب تيسير على صدري وهو يقول مُتَهَلِّلاً في بِشْر :
- اِنْبَسطَ يا عم، أنت من المُختارين، نُلت الرضا، لك الجنة، جنة الشَيْخ . ، ضحكت، فأردف :
- كيف لا تعرف الشَيْخ أبو الجنّة ؟! ، هو هكذا يحب أن يجلس في سكينة ولا يحب أن أعرّف به أحداً، اِختارك من بيننا، هنيئاً لك ستنهل من مُدام الحب والصفا .
، رددت في نَزَقٍ :
- مُدام ؟!، مادام كذا، ماشي، أي ليلة زهراء ؟ .
، أجاب في احْتِجَاجٍ لجهلي:
- ليلة الجُمعة من كُل أسبوع.
لم ألق لقوله بالاً، ونسيت الأمر كُليةً، حتى جاء يومٌ عزّ فيه الكَيف وندر، لا أدرى بنفسي إلاّ وقد ساقتني قدماي خارج البلدة واقتربت كالمسحور من البيت الكبير ذي الدورين القابع على النهر تحوطه كالمَرَدَةِ أشجار الكَافُورُ والكازورينا، خلفه الحديقة الغنّاء، جنة الشَيْخ كما يطلقون عليها بما تحويه من أصناف أشجار الفاكهة والأعناب والنخيل والزيتون والرمان ... ، جرت الأحداث بسرعة وتتابع مُدهش، لا أعرف كيف ظهر لي فَتُّوح ابن الشَيْخ، قادني عبر ردهة البيت حيث النساء انشغلن بالخبيز، الفطائر الذهبية تتصاعد منها الأبخرة، رائحتها الطيبة تعبق الأجواء، أدخلني حجرة الحَضَرَة كما يسمونها وأحكم غلق الباب، الإضاءة شاحبة، أكاد لا أميز أحدا، رحب بي الشَيْخ المتصدر المجلِس، أفسح لي البعض مكانا للجلوس على حَشِيَّة، كان الحُضُورُ يجلسون على شكل حلقة يتوسطها ميخائيل، دعاه كذا الشَيْخ، يباشر ميخائيل مُعَالَجَة جَوْزة ضخمة مثبتة على قاعدة دوّارة ، يضع المعسل على أحجار كبيرة، طبقة من المُعَسَّل وطبقة من الحشيش، طبقات بعضُها فوق بعضٍ، وبجواره منقل فحم مُتَّقِد ، استفتح الشَيْخ، خافَتَ بصوته حَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُم جَهَرَ صَّوْتَه :
- ملعون شيخ النّار .، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، إلى عالم البرزخ والمثال توكلوا . ، حلّق الصمت فوق رؤوسنا، بدأ المَبْسِمُ يدور بيننا في نظام رتيب ...
سكت عُمر، أراح ظهره للوراء وأغمض عينيه هُنَيهه، ثُم اِعتَدَلَ واسْتَطْرَدَ :
- لم أدخّن في حياتي لا من قبل ولا من بعد حشيشاً بهذه النكهة وهذا التأثير، زنّ دماغي وسرى المُخَدِّر في جسدي كالنار في الهشيم، ما إن رفعت عينيي في حياء أتصفح الوجوه الباهتة خلال الدخان الذى لف المكان حتى بادر الشَيْخ وكأنه قرأ خاطري في تعريفي بالحضور واحداً تلو الآخر، كلما انتقلت ببصرى لأحدهم نطق باسمه، سلمان، ويتمتم الجُلاَّسُ جميعهم بتقديسٍ :
- رضى الله تعالى عنه.،
ابراهيم، ويتمتمون :
- عليه صلوات الله تعالى وسلامه،
حسن، وتتعالى الصلوات عليه وعلى أبيه وأمه وجده ..... ، وهكذا حتى انتهى بي، عُمر ... الفاروق رضى الله تعالى عنه، أصابني العَجَبُ وأسررت في نفسى : رضى الله تعالى عنه، فَاهَ الشَيْخ في الحال بقوله :
- هو ، ولا أنت ... أنت أنت ، وهو هو .
اِستبدَّ المخدر بي، وجدتني وَلَجَت في عالم أسطوري يُذهب بالعقل، طَمّت المكان أشباح الأرواح المُهيِّمة، استرسل الحديث الدائر بين الملائكة والرُسل والأنبياء والأولياء والصّحابة والتابعين وتابعي التابعين، وحقّ اليَقين كان حديثاً مُحكماً عجباً، تساجلَ الحُضُورِ يحاجّ بعضهم البعض، تُشرق مِنْ تَنَاظُرهِمْ أسراراً عًلوية لم أسمع بمثلها قط، ولم تخطر على قلبي، أسمع مُطَارحَتهم تارة بأذنيي وتارة أخرى تُبثُ في روعي بثاً ... لا أتذكر شيئاً منها الآن، عقلي تحول من بعد هذه الليلة إلى صفحة بيضاء، قطعت الحديث إشارة نَدَّت من يد الشَيْخ قائلاً ورأسه يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال :
- لا يدخل علينا في مثل هذه الساعة سواه، جلال .
جَمْجَمَ الجميع:
- جلّ وعلا شأنه.،
قام على إِثْرها فَتُّوح يترنح، يفتح الباب لرجلٍ رَبعة، أخذ مجلسه بجوار كمال الذي بَدَرتَ مِنْهُ آهة.،
دار المَبْسِمُ في فَلَكِه من جديد، أتعجله، التقفه بشغف وتَلَهُّف، امتصَّ الدخان وأخرجه من منخري غَزِيراً كثيفاً وكأني أدخن في آخر عُمرى .... جذبتني غَوَايَة الْفُضُولِ، رُحت أتأمل في نظرة شمولية جلال، الوافد الجديد، فإذا بي أراه يكبر، يتضخم ويتعاظم ... ملأ المكان بجِرمه، ضاقت على نفسي وضاقت على الأرض بما رحبت، ازدادت سخونة رأسي وبدأ جبيني يتفصد عرقاً، اهتز نصفي الأعلى كغصنٍ لَدْنٍ يرتج وآهات تفتح فكي رغما عنى، ناجيت ربي: يا مُفرّج كرب المكروبين، يا جبار المستجيرين، ياذا العرش المجيد.
، وإذ بفَتُّوح يمسك بكتفي يخضخضني، وهمس مُتهكِّماً:
- أنت انسطلت!
تأوه الشَيْخ وصاح:
- يا للنِّفَار!
ساد الصمت، جاهدت لأفتح عينيي ما استطعت، حدّقت في وجه فَتُّوح مَغيظاً، فبادرني مؤكداً بخفّة:
- انسطلت.
حالما فكرت في القِيام سارع الشَيْخ بلهجة آمرة:
- الزم غرزك.
غمغمت:
- غرز من؟! ... إِيهًا!
ملكني العصيان والعناد، نهضت من قعدتي اتطاوح تعجن قدماي الأرض عجناً وأخذت وجهتي للنَّافِذَةِ الوحيدة المؤصدة، تلاحقني صيحات الشَيْخ:
- مُتسلل لا يفلح ... ملعون شيخ النّار، وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.
، فتحت النَّافذة بعنف، انْبَثَقَت سُحُب الدخان حول رأسي تترى، مددت رأسي أعُبُ من الهواء النقي عباً، ثُم هتفت في القوم بصوتٍ أجَش:
- من أراد أن تثكله أمه فليتبعني.
، ولم أدر إلاّ وأنا اقفز من النَّافِذَةِ إلى الجنّة وأطلق ساقاي للريح.
سمير العَصَري

L’image contient peut-être : une personne ou plus et gros plan

قراءة في ثلاث قصص قصيرة جدا للدّكتور حمد الحاجي من تونس بقلم الناقدة سهيلة بن حسين حرم حماد

 قراءة في ثلاث قصص قصيرة جدا للدّكتور حمد الحاجي من تونس

========= فرجة ====

1- المايسترو امرأة
ا=========
أفجرنا، هاربين منهم..
لما قطعنا مسافات تيه لمحنا الحراس يربطون رجالا الى أعمدة الخشب.. متضاحكين يرشقونهم بالرصاص...
وفيما كانوا یربطون جثث القتلى من خلاف ويرمونوها في عربات،
انتبهتُ الى يد أمي تزرع قطرات دمي المتناثرة
فسائل… فسائل ..!

ا======ا
2- ركح
ا========
العاشقات اللائي خبَّأنني في ضفائر شعورهن، وفي بسمة كل عابرٍ.. وعلَّقنني بقنينة عطرهن حين داهمهنّ البوليس..
لم تَسٓعٓهُنّ صالة العرض السخي للحكومة،
ليغنين سنفونية للوطن ..!

ا==========
3- المشهد الرابع
ا==========
ظلام، فإنارة.. وتصعد أرواحهم.. مثنى مثنى.. على الركح..
واحد فقط.. يمرقُ بقميصٍ أبيض ملتهبٍ..
يتخطى المتفرجين..
كضجيج بداخلي، أفسح له الطريق..
فوق الممشى، مرفوع الهامة يبصق بوجوههم..
يرشقه الجنود.. رصاصات.. رصاصات..
بينما تتساقط الجدران خراطيش.. خراطيش..
متهاوية..مرتجفة..

========
===========

القراءة

ثلاثُ ققج يربطُ بينهَا:
صانعُ ألعابٍ ماهرٍ يُتقنُ الصّّنعةَ إلى حدِّ الإبهارِ والدّهشةِ، لُقِّبَ بعدّةِ ألقابٍ... تَميّز في الثّلاثياتِ بدونِ منازعٍ، برَعَ في نسجِ الحكائيّةِ، فنِّ الغزْلِ، إيقاعِ الاختزالِ، براعةِ الحذفِ والإيجازِ وإحداثِ المفارقةِ، الموازنةِ، والنّغمِ والتّنغيمِ؛ لشدِّ المتلقِّي، بالعملِ على إرباكهِ وإحداثِ الرّجّةِ لإرغامهِ على التّفكيرِ وسحبِهِ إلى حلبتِه، مُعتمِدا فنَّ التّشويقِ والإقناعِ لمصداقيّةِ الرّبطِ بينَ السّببِ والنتيجةِ، لإحكامِ الحبكةِ وإيجادِ المعادلةِ عبرَ تدرّجٍ رصينٍ يؤدِي إلى تلذّذِ اللّغةِ من خلالِ عرضٍ يؤدي إلى نتيجةٍ منطقيّةٍ... تخدمُ الفكرةَ ،والموضوعَ، والرّؤيةَ، فِي مشهديّةٍ عاليةِ الجودةِ تؤكّدُهُ الثُلاثيةُ، التي بينَ أيدينَا و العناوينُ الثّلاثةُ المنتقاةُ بعنايةٍ فائقةٍ.
1-الميسترُو امراةٌ.
2 - ركحٌ.
3--المشهدُ الرّابعُ
ساعدَهُ في ذلكَ فكرٌ عميقٌ، زادٌ لغويٌ غنيٌّ، معرفةٌ بالبلاغةِ، حسنُ اختيارِ الفعلِ المحرّكِ؛ والاسمُ الرّامزُ للمدلولِ فيّاضٌ للْمعنَى، المُدرِّ للدّلالاتِ، المولّدِ للصّورِ، الدّافعِ للإيحاءِ... من خلالِ تشييدِ هرمِِ شاهقِ البِنيةِ هيَّأ لهُ كلَّ الظروفِ الملائمةِ للنّجاحِ، بدءاً من الفكرةِ إلى الموضوعِ، واختيارِ الشّخوصِ المؤدّيةِ للأدوارِ الدّاعمةِ للشخصيّةِ الرئيسيّةِ، وتطويرِ الحدثِ من دونِ إسهابٍ ولا ترهّلٍ فِي كلِِ ق ق ج، معَ العملِ على نموّهِ في ذهنِ المتلقِّي وتحريكهِ بتطعيمهِ بقصّتينِ قصيرتينِ جدًّا تعملُ كلٌّ منهُما منْ ناحيتِهَا علَى نموِّ الفكرةِ معَ الحرصِ على الاختزالِ فِي كلِّ المراحلِ من الفكرةِ و الحدثِ والموضوعِ والشّخوصِ لبلوغِ الرّؤيةِ بعدَ الارتواءِ إلى حدِّ الامتلاءِ لتقمّصِ شخوصِهِ الأدوارَ ببراعةٍ في كلِّ جزءٍ من أجل بلوغ الكمالِ عند الانتهاءِ من رسمِ البيئاتِ الثّلاثِ للق ق ج الثلاثةِ ، مع أخذِ الاعتبارِ من الزّمنِ، والأمكنةِ، فجاءتْ ثلاثياتُهُ حيّةً بها أرواحُ أبطالِها، ذاتَ طابعٍ كونيٍ تصلحُ لل(هُنَا) كما لل(هناكَ) ولكلِّ الأزمانِ، الأمسِ واليومِ والغدِ. استحالتْ صورًا متحرِّكةً، في ذهنِ المتلقِّي تغزوهَا الحواسُّ كالسّمعِ والبصرِ والحسِّ واللّمسِ والشمِّ والذّوقِ...
كما نلاحظُ، الزّمانَ والمكانَ اتحدَا، وتوحّدَا مع الحدثِ، والذّواتِ المقهورةِ، عبر حبلٍ سِرِّي اسمهُ وطنٌ منكوبٌ، وشعبٌ مقهورٌ، وُلدَ وبيدهِ شهادةُ وفاتهِ، قبلِ استخراجِ شهادةِ ميلادهِ. شاهدٌ وشهيدٌ، روحٌ تصعَّدُ إلِى السّماءِ، معلنَةً الانتصارَ على الأوضاعِ. ساردٌ عليمٌ، رُعبٌ من الحرّاسِّ، والبوليسِ، والجنودِ، خشيةٌ من فقدِ عزيزٍ مجدّدًا، وسلبٌ للحرّياتِ من جديدٍ، علَى أثرِ وشوشاتٍ، ووشاياتٍ، ومؤامراتٍ، تحاكُُ في السرِّ والعلانيةِ. جنودٌ ورّصاصٌ، و قنابلُ، خراطيشُ، يقذِف بهَا سِربٌ من طائراتٍ حربيّةٍ، مذكورةٍ في الققجَ، التسلسلِ الأولِ، (الميسترو امراةٌ)، عبرَ الإيحاءِ ، والأخرَى رصاصاتٌ غيرُ ملفوظةٍ في النصِّ الثّانِي، (ركحٌ)، محمولةٌ في مسدّسِ البوليسِ، الرّمزُ يوصلنَا إليهَا، الإيحاءُ، التّرميزُ، وقاعةُ عرضٍ لأحداثٍ، مكانِ التعذيبِ، يقع على ركحِ الحياةِ، ممسرحةً في المنافِي والمعتقلاتِ والبحارِ والزّنزناتِ وفِي المستعمراتِ، حيثُ تُعزفُ سمفونيَةُ الموتِ، ملوّنةٌ بشتَّى ألوانِ التّعذيبِ، تقودُ الفرقةَ الموسيقيّةَ في ال(هناكَ)، (مايسترو امراةً معرّفَةً) حياةٌ، وطنٌ، وأمٌّ معطاءٌ، تمنحُ الحياةَ، وتهبُ الأرضَ فلذةَ كبدِهَا وتبقَى تتلظّى، وتضخُّ الأرضَ عازفةً سمفونيّةَ الموتِ، بإيقاعِ تكرارِ التّشظِّي وظلالِ النّقاطِ المتتاليةِ، وقصفِ القنابلِ ورميِ الرّصاصِ بالرّشقِ، وبضحكاتٍ، صراخٍ، قهقهاتِ التّعذيبِ، وبقرعِ شظايَا، إرهابُ نغماتٍ،... فسائلُ، بدمٍ سائلٍ... كتقنيّةِ ريٍّ حديثةٍ، كبلاغةٍ في التشبيهِ...
كما ترقصُ الرّصاصاتُ والخراطيشُ هي الأخرَى على إيقاعِ التّكرارِ والتّشظِي في احتفاليّةٍ بالموتِ...
(رصاصاتٌ... رصاصاتٌ ...) و(خراطيشُ... خراطيشُ...).

اختلفتْ المسمّياتُ، والحقيقةُ واحدةٌ، رُعبٌ فإرهابٌ، قتلٌ وتقتيلٌ، تعذيبٌ جسديٌّ ونفسيٌّ، قصفٌ، ورميٌ بالرّصاصِ لمواطنينّ عُزّلٍ يدفعونَ ضريبةَ حظٍّ سيِّءٍ، أوقَعَهُمْ علَى أرضٍ غنيّةٍ حبَاهَا المولَى بمناجمَ، خيراتٍ، وشمسٍ وطقسٍ جميلٍ في ال(هنَا) وال(هناك)، غيرَ أنّ القدَرَ قذفَ بهمْ وأوقعهُمْ في حسدِ الزّبانيةِ وكيدِ الكائدينَ، فأرّقَ مضاجعَهمْ بمواجِعَ، نتيجةَ فواجِعَ، قصفٌ واغتيالاتٌ، وتعذيبٌ، توالتْ الفواجعُ، والمواجعُ، و الفقدُ، فخابتْ آمالُ بعضِ الشّعوبِ واستبدلتْ أحلامُهمْ بكوابيسَ، فضاقَ المكانُ رغمَ رحابتهِ، نتيجةَ رائحةِ الموتِ المنتشرةِ، وهولِ فظاعةِ ممارساتٍ أرّقتْ مضاجعَهمْ، وحَرمتهُمْ متعةَ الاستمتاعِ،بنعمةِ الحياةِ فرَّ بعضُهمْ إلى البحرِ أمَلا في تغيير واقعهم، امتدتْ إليهمْ الأيادِي من كلِّ مكانٍ مدّعيةً المساعدةَ، كما امتدتْ الأيادِي في الصّورةِ المرافقةِ، ظنَّ الغريقُ أنّها النّّجدةُ وطريقٌ للجنّةِ والنّجاةِ؛ فإذَا بتلكُمْ المنظّماتِ تلقِي بهمْ في العدمِ والعبثِ، قدّمتْ بعضَهم طُعمًا وطعامًا للأسماكِ .... أيادٍ تتحرّكُ من وراءِ البحارِ، وفي الأجوارِ وفوقَ البواخرِ تتفاوضُ وتُراوِدُ من أجلِ ربحِها الخاصِّ على حسابِ أبرياءٍ لفَظتهُم أوطانُهم من أصحابِ الشّهاداتِ وغيرِهِم، الذينَ تقطَّعتْ أنفاسُهُم، لهثًا وراءَ عقودِ عملٍ، ووهمِ عُبورٍ، تتعاملُ معَ (قَبَضيّاتِ) تُجارُ الموتِ فتُوقعُ ببعضِهِمْ، قربانًا لحيتانِ المافِيَا، وتفاوِضُ بآخرينَ... في العَلنِ وفِي السّرِِّ تتلقفُ المساعداتِ... تتوالَى النّكباتُ وتزدادُ خيبةُ أولئِكَ، فيتبدَّدُ كلُّ أملٍ فِي غدٍ أفضلَ، بفضلِ نتيجةِ نكباتٍ وخيباتٍ خيّبتْ واقعَهُمْ، وحاضرَهُمْ فأدارتْ لهمْ الحياةُ ظهرَهَا، تاركةً إياهُم يتخبّّطُونَ وسطَ وهْمٍ، همٍّ وغمٍّ، دمٍ، وغطرسةِ حرّاسٍ لجماعاتٍ تصدّرتْ المواقِعَ والأحداثَ في ال(هنَا) وال(هناكَ) على البسيطةِ في البرِّ والبحرِ، مدّت إليهمْ أيادٍ ملوّثةً، بالحقدِ وبشعاراتٍ مزيّفةٍ، يتشدّقونَ بهَا من علَى المنابرِ، تبدُو إنسانيّةً في الظّاهرِ، تخدِمُ خير البشريّةِ، فتكتّلتْ دولٌ على دولٍ، باسمِ الديمقراطيّةِ الحقِّ، بما فيهِم القدَرُ،
فسلبوهُمْ آخِرَ مَا يملكُونَ، لأجلِ حَرقَةٍ كآخرِ فرصَةٍ، وتخلصوا من أولئِكَ المنكوبِينَ الذّينَ أوقعهُم حظُّهُم السَّيّءَ بين أيديهِمْ، فعلِ الاختيارِ، و تركوهُم للقمْع مجبرينَ على تقمُّصِ دورِ المفعولِ به، بعدَ أن تألَّبَ ضِدَّهُم وتَكتَّلَ عليهمْ،القدَرُ، الذّي انتزعَ منهُم فعلَ الاختيارِ وتركهُم للقمعِ و الجبرِ، مجبرينَ على واقِعٍ وقعَ عليهِمْ، منْ دونِِ أن ينتخبُوه، واقعٍ مُرٍّ عجرمٍ، لم يتكفّلْ بجبرِ الأضرارِ...تُزهقُ أرواحٌ... يصوّرُ لنَا الق ق ج روحا تَصّعّدُ إلَى السّماءِ كشهِيدٍ صوَّرهُ لنَا كأنَّهُ الصّادقُ الوحيدُ، يمرُقُ بكفَنِهِ الأبيضِ، كأنَّه ملتحِفٌ بالرّايةِ البيضاءِ، رايةِ سلامٍ كثوبِ عرسٍ، يشعُّ نورُهُ .مخترقًا الجموعَ الغفيرةَ، للجمهورِ، المتجمهرِ الذِي كان حاضِرًا ساعةَ العرضِ كشاهدِ عيانٍ، على معركةٍ غيرِ متكافئةٍ، غلَبَ عليهَا القمعُ والتسلّّطُ، والتَّجبُّرُ، بفعلِ تسلُّطِ السُّلطةِ الأبويّةِ، بحُجّةِ الحمايةِ الأبديّةِ، المؤدّّيةِ إلى العبوديّةِ، هدفُهَا آخرَ المطافِ إسكاتُ أصواتِ الأحرارِ برشقِهِم بالرَصاصِ...

سهيلة بن حسين حرم حماد
سوسة جويلية 2020

L’image contient peut-être : Souheyla Hammed, gros plan

لكلٍ منا عصاه..سر قوته قراءة تحليلية لنص" رائحة العشب " ل / محمد البنا بقلم الأديبة السودانية / أم صباح صباح

 لكلٍ منا عصاه..سر قوته

قراءة تحليلية لنص" رائحة العشب " ل / محمد البنا
بقلم الأديبة السودانية / أم صباح صباح
..............
غالبا ما تتسم قصص محمد البنا بالبساطة والعمق والصدق، ورائحة العشب من النوع الذي تحمل هذا المعنى وتعتبر نجمة مشعة تألقت وسط ليل مدلّهم.
عقد الجلباب تبرز ملامح البطل وجديته
عاكسا اللحظة الآنية، والفجوة ليست إلا شريان يضخ دماء الحياة، تظهر شخصية عازم وعاشق للأرض يقطر حبا وتحنانا
وبين العقد و فك العقدة، تكونت حياة بين الأرض والفلاح الإنسان، يربط ويشد من ازره هذا العلاقة الموغلة في القدم الممتدة جذورها إلى باطن الأرض ولا تنتهي بالانتقال الروح بل ممتد اواصراها كأنها خالدة خلود الأرض نفسها الماء، فالماء هنا سر قوة بين الفلاح والأرض وجسر يربط هذا الحب الذي يشبه الحب الصوفي حب فيه وله للحياة لايساهم فيه الأحياء فقط بل حتى الأموات لهم نصيب حتى يتنسم القارئ رائحة العشب، فمن خلال فهمك للنص فهماً دقيقاً يجعلك تخرجُ أفكاراً، وتبرز ماكمن فيه من الجمال الناطق فستمع إلى " نقيق الضفادع، خرير الماء،" وتشاهد" خضرة الأرض وزرقة السماء،" وتستبصر دلالة العصا التي تشبه عصا موسى في في قوة التحول كل من.
رغم أن القصة شديدة الإيجاز لكنها تحمل من غنى الدلالة وقوة المعنى ما ينطق الحرف.
التحية للأستاذ/ Mohamed Elbanna
أم صباح صباح....11 سبتمبر 2020
............
النص
..............
رائحة العشب
...................
عقد جلبابه ضامًا أطرافه إلى خصره النحيل، انحنى على حافة القناة مُحدثًا فجوةً في الجسر الممتد بطولها؛ اندفع الماء متلهفًا لإرواء الأرض العطشى.
جلس على حافة الجسر، أمسك بعصا صغيرة وغمس طرفها في المياه المتدفقة؛ هكذا كان يرى أباه يفعل.. ألف عامٍ مضت ولا شيء تغيّر، رائحة العشب، نقيق الضفادع، خرير الماء، خضرة الأرض وزرقة السماء، وأشباحٌ تمضي في ظلمة الليل القادم، صوب أشباحٍ منتصبة حيث ينتهي البصر.
لا يدري كم من الوقت مضى، حين طرق صوتها أبواب أذنيه برقة " كفى ماءً، لقد ارتويت "، ردم الفجوة وانتصب واقفًا، فك عقدة الجلباب، وأخذته خطاه المتسارعة متخطيًا بضع قنوات، ليلتحق بطابور الأشباح.
..........
محمد البنا...ديسمبر ٢٠١٢
L’image contient peut-être : fleur et nature
L’image contient peut-être : 1 personne, nuit et gros plan

وهل لماءٍ أن يستقر ؟! قراءة عامة لنص" عرش على الماء " للقاصة السودانية / مي عبده عزت بقلم الناقد المصري / محمد البنا

 وهل لماءٍ أن يستقر ؟!

قراءة عامة لنص" عرش على الماء "
للقاصة السودانية / مي عبده عزت
بقلم الناقد المصري / محمد البنا
...........
عرش على ماء!، وأنّى لماءٍ أن يستقر!
نص حفل بالثنائيات المتضادة، ما بين صعود ( وهمي ) وهبوط ( حقيقي)، وبين ناطحة سحاب ( قمة ) و فرن جدتي ( قاع )، وبين تحليق( طائر، جاكوزي) وعجز كامل ( سيدها ).
إنه الهروب إلى الخلف، والصعود إلى أسفل، إنه الفاقة وتداعياتها؛ الحرة عبدة جارية لا تملك من أمرها شيئا، سوى النظر من علٍ، لقاعٍ هربت منه، بعد أن دفعها إلى الغنى والمتعة( ظاهريا ) بينما في حقيقته جذبها لأسفل سافلين.
في زمننا الحديث ( جاكوزي، ناطحات سحاب ) لا رق ولكن استرقاق، لم تكن جارية ولكنها محظية، ينالها سيدها ( المال ) وقتما يشاء وكيف شاء.
أرادات أن تتعرى وترقص، إنه رقص الذبيح الحبيس ( جدران أربعة )، لا علاقة لها بالدنيا وبشرها، فتلجأ لهر ونيسا ومطلعًا على لوعتها النفسية، وكاتمًا لأسرارها، ولكن أي سرٍ تخفي وهى العارية وإن لم تتعر، عارية النفس تحت الطلب، تضع جسدها حيث شاء مالك أمرها، لا صلة لها إلا به، ومتى ؟..حين يشتهيها وليس حين تشتهيه، حتى تواصلها مع وصيفاتها يتم عبر نداء آلي!..أي حقارة تلك وأي تحقير!..عبودية ووحدة!!...لا تحتاج أن تنزع عنها ملابسها، فهى نزعتها وتنزعها وستنزعها، ليس لأن لا أحد سوف يراها، ولكن لأنها اقدمت منذ زمن على تعرية روحها، ولكن لم تكن تدرك، ولم تكن تحس، ولم تكن ترى، والآن أيقنت عريها، ترى ماذا ستفعل؟..الدور الرابع والثلاثين!!.. ترى كم بقى من أدوارٍ لها؟!
وجدران تحطيها ونوافذ زجاجية...ربما غير قابلة للكسر! ولكن هل لكسير نفس أن يكسر زجاجا، ويفرد جناحيه المهيضين ويطير ...إلى الشارع ( الحياة الحقيقية )...سؤال طرحه النص، وأوكل إجابته لنا...نحن القراء المتفرجون وعيوننا تتطلع لأعلى ناطحة سحاب.
نص مونولوجي موحي بجدارة، متعدد المفاتيح كسلسلة مترابطة، أجادت الكاتبة باختيارها ضمير المتكلم، والراوي السارد المشاهد العليم في بعض مواضعه، اجادت الاختيار بما يناسب النص النفسي بامتياز، فهل لسجينٍ في زنزانة انفرادية أن يتحدث إلى أحد ..إلا نفسه!..يعريها وتعريه.
ونجحت في اختيار الكلمات الدالة بطلاقة عما يتطلبه ويرومه الفكر المؤسس للمتن السردي.
ونجحت في نزف عبير سردي هادئ في ظاهره، عنيف في باطنه المشتعل.
ونجحت في تقديم معالجة استثنائية تركت الباب مفتوحًا لما بعد.
محمد البنا...١١سبتمبر ٢٠٢٠
.................
النص
.......
عرش_على_الماء..

ما أجمل المنظر من خلف النوافذ الزجاجية، وما أروعه حين يكون من على ارتفاع خمسة وثلاثين طابق.
ياترى!! بماذا كان يفكر المعماري الذي صمم ناطحة السحاب هذه؟!
لابد أنه فكر في إمتاع البائسين أمثالي، الذين يشاهدون العالم من بعد، دون الأختلاط بالمارة، في الدرك الأسفل من الدنيا؛ حيث تفوح رائحة التعب والشقاء، وقد التصقت بهم أهداب الشمس من بعد عناق حار.
يباغتهم المطر تارة، ساخراً من مساحيق التجميل الرخيصة التي يستخدمها نسائهم، أو تبتلعهم الأتربه، ليخرجوا بعدها بشعر أشعث مغبر.
_غارت نظرتها، وقالت:
رغم أني!!
اشتقت لعبق الأرض والعشب البهي، ورائحة الخبز التي تفوح من فرن جدتي، وطعم التوت المجفف في منزلنا القديم.
_حينها تراجعت وكأنها تبتعد عن الأشواك.
لكن لا!!

لا لن أدنو من الأرض؛ أخاف أن أتوه فيها؛ فلا أستطيع العودة مرة أخرى.

_دنت من الهر الرمادي مداعبة عنقه لكي لا يشي بما يسترق السمع إليه من أسرارها.
واخبرته: ليس منهم من يستطيع امتلاك جناح فاخر مثلي، أليس كذلك أيها المشاكس؟!
سأشعل الجاكوزي الحار لأشعر ببعض الأسترخاء بعد الليلة الصاخبة!!
لابد من بعض الموسيقى الكلاسيكية،
وقطعة شوكلاتة سوداء فاخرة لتذوب في فمي، كما أذوب أنا كل يوم أمام هذه المرآة.
كرهت ما تمليه علي كل يومٍ عن شكر النعم،
أيُّ نعمة تكون في الضجر مابين أربعة جدران زجاجية!!
السنوات كلها تقلصت في فصل واحد لا ينتهي.
ما أبشع أن تشاهد الجميع يتحرك، يتغير، ويتلون إلا أنا!!
حتى أني قد فكرت يوماً في التعري، والرقص أمام الجميع، لكن من هو ذاك المجنون الذي سيرفع رأسه لينظر لهذا الارتفاع المجنون.

_لملمت ابتسامتها المتهدلة، خوفاً من لعنة التبطر.
_رفعت شعرها بمشبك من الذهب الخالص وأفرغت علبة كاملة من مزيج اللافندر وخلاصة المسك في الماء الدافئ، ثم همت بالدخول فيه لنسيان كل ما مضى، استعداداً لليلة جديدة.

أحدهم ينقر باب غرفتي!!
عبر الرد الآلي أجبت بالسماح .. إنها أحدى وصيفاتي.
أخبرتني أن علي ارتداء الثوب الأحمر، ذو الخيوط المجدولة على الظهر، ووضع العنبر بين خصلات شعري كما أمر سيدها، وسيدي.
ثم خرجت ترثو لوحدتي!
أيقنت حينها، أنني بالفعل عارية.

مي عبدالحميد.......١١سبتمبر٢٠٢٠
السودان

L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan
L’image contient peut-être : 2 personnes, gros plan

عندما يتنافس عملاقان ............ قراءة ونص ......... الأديبة السورية / كنانة عيسى والقاص المصري / عصام الدين محمد أحمد الشاكة

 عندما يتنافس عملاقان

............
قراءة ونص
.........
الأديبة السورية / كنانة عيسى
Kinana Eissa
والقاص المصري / عصام الدين محمد أحمد الشاكة
Esam Eldean Elshaka
...........
... ثم جاء الأستاذ عصام الدين بنص لا يقدر بثمن، نص يشبه منحوتات مايكل أنجلو أو جحيم دانتي أو قصيدة منسية لرامبو. نص سردي تجاوز المعتاد بنزع قلب الحدث من ماض محفور في ذاكرتنا الموقوتة وترتيب قطعه ونسج أحجياته لينساب بفتور ضدي للشخصية الرئيسية( شخصية الراوي)، المصور المبدع الذي يتصيد اللقطات السائغة ويفردها للرأي العام باحثًا عن جائزة فريدة أو تقييم استثنائي(أبهرُ بها العالم) مدافعًا عن (بني قومه) المجهولين،. يبدأ الاستهلال بإيهام مقصود ليدس فضولا غرائبيا لدى القارئ وينتقل بنا من خلال لغة مسبوكة واثقة إلى بيئة المكان وزمانه (القدس) ، مصورا، مشهده
العنصري الخاص و الواضح للعلن بتحيزه للجنود المتعبين بهرواتهم الثقيلة،. ومبررًا وجهة نظره الخاصة المتطرفة، فالأشرار هنا هم الأطفال المخيفون( والحجارة في أياديهم شواظ من نار .) يستخدم الكاتب صوته الداخلي ليألّه نفسه وليدمج القارئ في وجهة نظره المتفوقة كمصور عبقري بعدسته الفريدة (أقتنص الفرص) فينقل لحظة قتل مرصودة عن سبق إصرار، للطفل المحاصر في حضن أبيه، ويتصعد الوصف المشحون لعملية القتل المدروسة، فيسلب من القارئ العربي حياديته و، ويضمر له حالة غضب ناقمة(وكأنهم يقرأون خواطري)، (فيمطرون الحائط بالطلقات) (لا بد من قتل الولد)، ونستشعر تلك السخرية الكرنفالية مع هذا القبح الفج المسيطر في النص، من خلال تهميش الألم الإنساني على وجه الأب وابنه الشهيد (محمد الدرة) لغويًا باستخدام مفردات فنية بديلة (شخبطات)، (تقوسات) ، (سريالية) (أشفتان تلك) ،ويبدأ الإنحدار القاتم لظلمة الشخصية المحورية و المتآمرة، تتحول الطريدة ل(كتلة شحم مترهلة) تخفي مخالبها اللينة
وتأتي النهاية العلنية طارحة إيديولوجية تهاوي الطبقات الإنسانية وعقم صراعها التاريخي السياسي بخلق مبرر واحد. الطفل الشهيد (ربما يكون بيده حجر)
أبدع الأستاذ عصام، بنقل وجه نظر الإعلام المسيس (قص ولزق وتهويد) ، بإتقان مدهش مظهرًا قصور الواقع المعاصر عن فصل لحظة تاريخية قاسية لن تمحى من ذاكرتنا الإنسانية.
(أعذر لي عدم التصوير)
.....
كنانة عيسى ..٧ سبتمبر ٢٠٢٠
........................
النص
.........
قصة قصيرة
قص ولزق وتهويد
Esam Eldean Elshaka
........
قص ولزق وتهويد
· السماء – اليوم – يبدو عليها الحُزن، قد تكون فـُرصة لتسجيل صورة حية، تنبُض بالانفعالات، أبهر بها العالم مُحرزاً وساماً على صدر بني قومي .
نسيت أن أقول لك أن آلة تصويري من بنات أفكاري، وكُل قطعة فيها من بلد .
· فرغت – تواً – من استحلاب قطرات الشمبانيا، فلا يُمكنني التصوير وأعصابي مشدودة .
· وربما لا أجلس هكذا ثانية، فالأطفال – هُنا- مهووسون بوهم اسمه القـُدس، والحجارة في أياديهم شواظ من نار .
· ها هي نبراتي تعلو، وتفتقد حيادية التعبير .
· علقت الكاميرا فوق كتفي الأيمن، أغلقت الباب، أتوجه إلى حائط المُبكي، في الطُرقات جنود متأهبون، فُرصة ماسية يجب أن لاتمُر دون قنص، فمن المؤكد حدوث شغب وحجارة ورشاشات، فالمسلمون يجثمون فوق صدورنا ويحتلون معبدنا المٌقدس .
· على فكرة هؤلاء قلوبهم قاسية، يستكثرون علينا البُكاء .
· أرأيت مثل هذا العنت قبلاً ؟
· أمسك الكاميرا يا فنان . · أقترب ... أكثر ... ما هذا ؟ ؟ أين الكاميرا ؟ ؟
· رجُل وولد يستندان على الحائط، يرسمان بجلستهما قطراً لدائرة محيطها ستة جنود، الجنود لا يلبسون سوى سترات واقية، وكل فرد بيده فقط – بُندقية آلية، وتتحزم جنودهم- يا عيني – بالهراوات الكهربائية، وعلى وجوههم آثار التعب .
· الكاميرا بها عدسة مُكبرة، ألم أقـُل لك أنني أتربص بالفـُرص .
· الرجل يغمض عينيه ويلوح بيديه في شتى الاتجاهات، والولد يحتمي بجسد أبيه، يُلحد وجهه في عظام ظهره .
· هذا المشهد لا يعكس الفزع كما يجب، فقط حاجباً الرجُل مزمومان وجبته معقودة . أصرخ :
· طلقات ... بارود .. موت .
· الرجُل يفتح نصف عينه المُلتصقة بصفحة أنفه اليُمنى، والولد يتشبث أكثر بأبيه، وجهاهما يضويان بالعرق. ازداد الجنود جُندياً آخراً .
· هذه الصورة لن تحظى إلا باهتمام بعض المعارض المحلية وصُحف المُعارضة قليلة الانتشار .
· وكأنهُم يقرأون خواطري، فيمطرون الحائط بالطلقات، البُكاء والنحيب يتوهان في الضجيج .
· الكاميرا سجلت ريالة الرجُل ومخاضه ولسانه الذاهل، الرجُل يزحف مُلتصقاً بالبرميل، والولد في أثره . · أين الأحاسيس ؟ ؟ أين الخفاء المُترجم إلى خطوط ؟ ؟
· يتوقعان ... هذا غير كاف .
· يتسربلان بالرُعب .. هذا – أيضاً – لا يشبع جوع آلتي .
· ها هي ... وجدتها... لابد من قتل الولد .
· الصُخب والحركة يضفيان على المكان بُعداً درامياً، الرجُل يفتح عينيه عن آخرهما، أسنانه تصطك وتحتل عشر الصورة . · أحلقه جاف ؟
· ربما !
· إدماؤه فائرة ؟
· لماذا لا ؟
تقب أشواك رأسه، بيده علبة سجائر، لم تسقـُط بعد، ما زالت في هذا الرجُل بقايا جلد، انفجارات فوق رأس الولد، جسده يرتخي، لقطة جيدة ...... أليس كذلك ؟
ها هو الولد يبتعد قليلاً ، فوق وجهه شخبطات وتقوسات .
· ما هذا ؟
· أ أنف ؟ ؟
· نعم ، المخاض الجاف يصنع قناعاً . · لوحة سريالية مُعبرة .
· أفم هذا ؟ ؟
· أشفتان تلك ؟ ؟
· لا ... بل كُتلة شحم مُترهلة، تخفي مخالب كانت يوماً لبنة . أين العينان ؟ ؟
· كفى ..... كفى · الصورة لا تنقـُصها إلا رتوش بسيطة .
· مُجرد إضافات والمسألة هينة يُمكن مُعالجتها معملياً . · ياه ..... ما هذا ؟ ؟
· صدر الولد به عشرات الثقوب .. أعذر لي عدم التصوير، ربما يكون بيده حجر .

تمت بحمد الله وتوفيقه : عصام الدين محمد أحمد

L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan
L’image contient peut-être : personnes assises