الغرائبية بين الوهم والتجسيد
قراءة رمزية
بقلم كنانة عيسى
لنص " دبيب فوق الفراغ الأبيض"
ل / إيناس سيد جعيتم
........
وتذهلنا الكاتبة إيناس جعيتم من جديد، بنص غرائبي يمزج الأسطورة بالحلم معًا في إطار رمزي محوره الأساسي هو رفض العجز الإنساني النمطي والبحث عن الكمال. بين صراع الجسد الهش والروح الإنسانية المتمردة.
تبدأ الكاتبة الاستهلال بمناجاة آنية ،لتقدم للقارئ سلسلة من الرموز الطوطمية المترابطة ، فتظهر لنا ماهية الصراع ودلالاته . من خلال حوار فلسفي متغير.
الرمز الأول مبهم يحتمل صفات الذكورة والأنوثة ويرنو بقوته وجماليته ورشاقته ليغدو أيقونة قوة مبهمة مسيطرة، ولعلنا نربط الرشاقة والليونة والجمال في استهلال الكاتبة لرمز( الفرس) الجامحة التي تعدو
في قوة وسيطرة وغرور بلا عائق ولا قيد. ككائن أسطوري يرفض لجام الجسد ويتحرر بقوة الوهم الخصب مثل، الحصان بيغاسوس في الميثيولوجيا الإغريقية، أو الأحصنة المجنحة في تاريخ الشرق القديم في بلاد الرافدين السومرية ومصر الفرعونية. أو البراق كرمز قدسي في الثقافة الإسلامية.
ولكن الصوت الداخلي المجهول يقلب ميزان الرغبة بالتساؤل
أليس هذا ما قيل عن الأجسادِ السابقة؟
وتنتقل الكاتبة ببراعة نحو رمز آخر في خطاب سردي رشيق يذكر القارئ بمحور القص بأسلوب يطاله الشك العقلي
تضعنا أمام فكرة الحرية المرتبطة ب برمز الجمال ف الطفولة وانبلاج الحياة، هي(الفراشة) رمز الصفاء النفسي والعاطفة الرقيقة وإطلاق رغبات الخصوبة وفصل الربيع، ولكنها في منطق الصوت المجهول ضعيفة منهكة
رقتَها الشديدةَ وضعفَها أحالاه قبحا
فجمال الجسد لا ينطبق على صفاتها، فكأنها رمز للعمر القصير ولرحلة الأرواح في البحث عن الخلاص،، فالفراشات ارتبطت في كثير من الأساطير الآسيوية والاسترالية والايرلندية بنبوءة الموت وأرواحه الضائعة. مازالت الساردة تبحث عن فكرة أفلاطونية لخلود الجسد المؤله . فتنتقل بالسرد إلى رمز مألوف وانسيابي ألا وهو (العصفور)، رمز الحرية المطلقة والجمال الوجودي، ونراها وقد ربطت نفسها به بشكل ذاتي أعمق بهذا الرمز، فالعصفور هو رسول الآلهة في الأساطير الاسكندنافية ورمز الموت والبؤس في سواها وهو رمز الطبيعة الأم و الآلهة المقدسة في ديانات الهند القديمة، وتاريخ مصر القديم، بالنسبة لها هو لا يمثل واقع كمال جمالي جسدي كما ترغب به.
ألم يكن مثالُ الحريةِ والروعة؟
هي ترفض مجددًا تلك العلاقة الإرادية بقوة الروح باحثة عن كمال الجسد النخبوي وخلوده.
مصغية لوسوسة غامضة ودلالية معا
وتبدأ لغة الحوار بالتحول والاتساق وتضعف إرادة الساردة أمام استغراقها بجمال من يحلق عاليًا متنقلًا من قطب لآخر و من عالم منبهر لسواه، ملامسا الشمس زاهيًا بألوان ريشه، فيعود الصراع الجوهري أقوى لروح متوحشة شابة تبحث عن الخلود في جسد كامل فتتفق مع الصوت الغامض على مضض
ذلك لم يكن كافيًا؛ ينقصه القوة.
-ياله من جحود!!!
يقبع القارئ بين السطور في ترقب، باحثًا عن اكتمال دائرة الرموز، باحثًا عن الواقع المطلق في عالم الساردة الحسي، فيوقظه نداؤها البائس
كفى، أتركني لماذا تفسدُ عليّ متعتي دوما
الساردة الباحثة عن الجمال بعجزها الجسدي،ترسم عالما حالِمًا من ورق وكلمات، عالما تستطيع فيه خوض الأمكنة بيسر ورحابة، بجسد كمالي يليق بالآلهة،، فتكتمل الدائرة البوهيمية وتعود لنقطة الجمال الأولى، فهي في سقوطها العلني من شرفتها تعلن رفضًا لروح حبيسة أقعدها جسد ناقص معاق، فالموت الظاهري انعتاق ساخر من مهمة النجاة، يعيد خلق الرموز الطقسية من وقع حوافر الفرس الجامحة لإشراق أجنحة العصافير و لربيع الفراشات الأخضر، فتعود الشخصية الرئيسية لبياض صفحة جديدة باحثة عن خلاص جديد.
كنانة حاتم عيسى
٢٠٢٠/٩/٢٥
..........
النص
.......
دبيبٌ فوق الفراغ الأبيض
هذا الجسدُ الجديدُ يناسبُني تمااااما....
اللونُ الذهبيُ يليقُ بي كثيرًا، وذلك الشعرُ الطويلُ المنسابُ مزينًا غرتي منسدلًا على كتفي، يشاغبُ النسماتِ وأنا أجري منطلقًا مزهوًا بعضلاتي القوية، مزينةً جسدي بتفاصيلِها الدقيقةِ التي تبرز مع كلِ خطوةٍ أخطوها، كم يروقُني حقًا، للقوةِ الساريةِ في جسدي نشوةٌ عجيبةٌ تسري بعروقي طالبةً المزيد، فأركض وأركض وأركض و..
-أليس هذا ما قيل عن الأجسادِ السابقة؟
_لا هذا الجسدُ مثالي، يسطعُ الجمالُ من كل خلاياه.
- ألم تكن الفراشةُ آيةُ الجمال؟
_كانت بديعة، تنتقل بين زهرةٍ وأخرى لترتشفَ الجمالَ وترفلُ فيه، لكن رقتَها الشديدةَ وضعفَها أحالاه قبحا.
-وماذا عن العصفور؟ ألم يكن مثالُ الحريةِ والروعة؟
_ ريشاتهُ اللامعةُ وألوانُه الزاهيةُ أسرتني، حلقت معه لعنانِ السماء، لامستُ النسائمَ بجناحي، التحفتُ الشمسَ وسكنت أعالي الشجر، غردتُ أبدعَ السيمفونيات، لكن ذلك لم يكن كافيًا؛ ينقصه القوة.
-ياله من جحود!!!
هو طبع البشر فلا لوم.
_كفى، أتركني لماذا تفسدُ عليا متعتي دوما!!
انسحب ضجرًا ليختبئ خلف عجلةِ كرسيها المدولب، بينما تعالى الصهيلُ والتهمت الحوافرُ الحروفَ التائهةَ فوق الفراغِ الأبيض.
دفعت كرسيَها نحو الشرفة، أزاحت الستائرَ لتنطلقَ عبرها في قفزةٍ هائلةٍ لتطفئَ نورَ الشمسِ ببريقها الذهبي فتنمو الحشائشُ من الإسفلتِ تحت حوافرِها وتُنبت أعمدةُ الإنارةِ الأوراقَ الخضراء.
إيناس سيد جعيتم ١١أغسطس٢٠٢٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق