الجمعة، 2 أكتوبر 2020

البنيوية وحنين فقد ماضيه قراءة في نص بقلم / محمد البنا لقصة " حنين فقد ذاكرته" للمبدعة السودانية / مي عبده عزت

 البنيوية وحنين فقد ماضيه

قراءة في نص
بقلم / محمد البنا
لقصة " حنين فقد ذاكرته"
للمبدعة السودانية / مي عبده عزت
.........
البنيوية مدرسة نقدية بدأت كمدرسة غير معلنة على يد الشكلانيين الروس في بدايات القرن العشرين، ويعد فرديناند دي سوسير الأب الحقيقي لها،ثم عمل على تطويرها تودروف ورولان بارت الذي اسهم بشكل كبير في ارتدائها حلة جمالية متأثرًا بفكر المفكر الشهير بنديتو كروتشي، ونظريته عن علم الجمال.
البنيوية مدرسة تهتم ببنية النص من داخله، ولا تلتفت للعوامل الخارجية مثل التاريخ والمجتمع والدين وخلافه.
كانت هذه توطئة تعريفية تمهد لمدخلنا إلى دراسة النص الذي بين يدينا.
بادئ ذي بدء...هذا نصٌ قرأته قبل نشره- دكتور مي هى إحدى المتتلمذات على يدي- وأثنيت عليه وطالبتها بنشره، ومن ثم نسيته إلى حين عودتي إليه ناقدًا بعد حين.
لماذا أقول هذا؟ وهو تقريبا يعرفه الكثيرون!... في الحقيقة عندما عدت للنص كناقد تفاجأت حد الدهشة الصادمة، صدمة رهيبة ولكنها الصدمة التي يقشعر لها جسدك..ترى لم ؟..بعيدًا عن فكرة النص وطريقة معالجتها، وأسلوب مي المتفرد ( تعدد الضمائر الساردة )، بعيدًا عن كل ما ذكرته- وقد ذكرته قبلا في كل دراساتي لنصوص مي- رأيت أمامي ثماني فقرات مقسمة بفواصل واضحة، والثماني فقرات مقسمة إلى خمس فقرات أساسية يربط بين كل فقرتين أساسيتين فقرة ربط ثانوية...تخيلوا معي أسورة ذهبية من خمس فصوص كبيرة وبينهم ثلاث فصوص فضية صغيرة، يلضمهم معًا خيط معدني طيّع، الا وهو الفكرة، وما الفكرة هنا إلا الإرادة، وما الأداة إلا صالح...نعم صالح ..صالح الحبيب هو العمود الرأسي الذي أقامت عليه الكاتبة دعائم نصها، وأبتنت حوله بيتًا بغرفه ونوافذه وأبوابه...كانت قوية عندما قررت واختارت صالحا ونأت عن الأحبة والأهل لأجله، وكانت قوية عندما اختارت وقررت دفع صالح بعيدًا عن معاناتها رحمة به من التعايش مع مأساتها ( الورم الخبيث ) او التأزم النفسي لفقدها وهى بين ذراعيه، فخلعت خاتمها.
هى عاشت من أجل صالح، واختارت أن تموت بعيدا عن صالح ومن أجله.
ولكل قرار ثمن..هكذا خبرتنا الحياة، وكان الثمن باهظًا..حياة، ويالها من حياة!!..حياة بلا ذاكرة، لتظهر قوة الارادة من جديد..فلتكن بدايات حياة جديدة، يشدها الى الماضي المفقود والمفتقد برواز لصورة جامعة( ليس فيها صالح )...أليس ذلك ثمنًا باهظا؟!.
والآن عودة لما أدهشني، فما أدهشني فعلا هو أنني لمحت قوة أسلوب كنانة عيسى( اللغة الرصينة والمعالجة )(ماهى إلا مغامرة....ولربما تكون الأخيرة )/ ولمحت وجع أسلوب صديقة صديق علي( التردد الأولي، شجن المفارقة للاهل، حنين ما بعد فقدان الذاكرة)/ ولمحت براعة أمل البنا ( تراكيب الجمل )(تلك الابتسامة المصلوبة ....وغيرها من جمل تعددت)/ولمحت حنكة ومهارة ايناس جعيتم ( الانسياب السردي )(الانتقال السهل بين الجمل والفقرات من البدء حتى النهاية)/...كل هذا انصهر بعفوية في متن سردي ينتمي وبما لا يقبل الشك في إبداع واحد..ابدعته مي عبده عزت، وفي نص واحد عنونته " حنين فقد ماضيه"
حين ننظر لكيفية البناء السردي الذي انتهجته القاصة، لطرح أقصوصتها هذه نجدها اعتمدت مسارين أحدهما أفقي ويمثله التتابع المشهدي وفواصله الثانوية، والآخر رأسي ويمثله تصاعد الحالة الوجدانية عند بطلة القصة، واستطاعت الكاتبة بمهارة أن توثق الرابط بين كلا المسارين، بابتداعها الشكل البنائي سالف الذكر، حيث اختفى العامل الزمني المباشر، وتخفى خلاف السطور، اللهم إلا فيما سقط سهوا مثل ( بعد، قبل).
كما كان للفقرات الثانوية تأثيرها الجمالي - رغم عدم أهميتها لتوثيق الفكرة- على متعة القراءة، وبخاصة الفقرة الرائعة ( حديث الممرضة والطبيب ) فقد تكفلت الكلمات الحوارية - رغم كثافتها الشديدة- بخلق مشهد ينطق حياة( غرفة في مستشفى ).
هنيئا لنا بهذا النص الشجي المبدع، وهنيئا لك يا مي بهذا الإبداع الذاهل المذهل، وهنيئا لكن أنتن - صديقة وأمل وكنانة وايناس - بتغلغل ماتتميزون به مؤثرا في ذائقة كاتبة اراها انضمت وبجدارة إلى قمة تتبوؤنها عن جدارة أيضا.
محمد البنا..٢٩سبتمبر٢٠٢٠
.............
النص
........
#حنين_فقد_ماضيه..

ترددت كثيراً قبل أن أوقع على هذا الأقرار،
فلا أستطيع الأختيار مابين الموت، والمجازفة بما تبقى من الحياة!!
صعب هو القرار، حين تتعلق عيناك بالسماء، ترفرف بجناحي الأمل لتلامس النجوم، لكن تخاف من السقوط في تلك الحفرة المظلمة الرطبة، دون أن يتسنى لك الوداع.
دعكِ!!
ماهي إلا مغامرة أخرى، من مغامرات حياتك. أسوف تبخلين على نفسك بها؟!
لربما تكون الأخيرة!!
🌼🌼🌼🌼🌼🌼
وضبت حقيبتها الصغيرة، لم تنس زجاجة عطرها الرخيصة، كما ذلك البرواز الخشبي الذي يضم بين جنباته صور جميع أحباءها، ولم تنس أيضا شالها الصوفي الذي أهداه لها صالح، مازال عبق أنفاسه ودخانة باقٍ، منذ ذلك الشتاء الماطر.
🌼🌼🌼🌼🌼🌼
كيف وصلت إلى هنا، بكل هذا الشحوب!!
لا أحد يعلم، حتى هي.
ما زال كفها ممسكاً بمقبض الباب، يرتجف.
باغتتها الممرضة، فتحته لها، أدخلتها، ثم انتشلت حقيبتها من بين يديها، ورتبت ما فيها في الخزانة المقابلة لفراشها، ووضعت لها ذلك البرواز على المنضدة.

صعقتها بذلك السؤال!!
هل أنت خائفة؟
أجابتها بإيماءة من كتفيها!!
لا تخافي يا سيدتي، بل ابتسمي، سيكون أمهر الأطباء في العالم حولك، يعتنون بك.
🌼🌼🌼🌼🌼🌼
ظلت ترقب تلك الصورة حتى غفت عينيها.
أشرقت شمس اليوم المرتقب، أيقظتها ذات الممرضة ب: صباح الخير يا أجمل سيدة في الدنيا، استعدي، لحظات وسيتم نقلك لغرفة الجراحة.
ثم ظهر الطبيب من بعدها، القى التحية وقال لها: هلم بنا لنخلصك من ذاك اللعين.
توضأت، ركعت، طلبت العفو من الجميع،
ثم ابتسمت واستكانت في النقالة الطبية بكل استسلام.
لا سبيل للتراجع.
وحدها عرفت أن رغبتها في البقاء قادرة على ابتلاع ذلك الأمل الضئيل جداً في نجاح تلك الجراحة.
🌼🌼🌼🌼🌼🌼

رغم تلك الابتسامة المصلوبة على وجهها المتجمد إلا أن لا أحد ينتظرها بالخارج.
أليست غريبة يا دكتور!!
أجاب مساعدته، لنسألها حين تفيق..
🌼🌼🌼🌼🌼🌼
كانت تسترق السمع من حولهم، ما أجمل أن يكون للإنسان جناحان.
تأرجحت مابين السماء، وحقيقة أنها متجمدة في فراغ من اللاوعي، تعبث كطفلة في وجوه كل الناس الذين التقتهم يوماً، وصادقاهم أو أحبتهم، خصوصا بعد أن هجرت عائلتها فداء لصالح، الذي علمها كيف تلامس دفء الشمس، قبلت كل الأزهار التي أهداها لها، على مدار عشر سنوات، قبل أن تخلع محبسه، متحججة بأنها ما عادت ترغب في مشاركة أحد لوسادتها.
حتي صديقتها المقربة، اخبرتها بأنها ستكون في عطلة، ولن تستقبل المكالمات الهاتفية.
ابتعدت برأسها المثقل بالورم، حيث لا يعرفها أحد، تخلت عنهم مقابل الاحتفاظ بكبرياءها وصمودها.
فقط أهدت الجميع أحضاناً عميقة، عبر حلم جميل، حتى بلغت من التأثر منتهاه.

🌼🌼🌼🌼🌼🌼
استغرقت الجراحة لإزالة ذلك الورم من رأسها قرابة الثمان ساعات، كان قريبا جداً من مخزون ذاكرتها، لكن!!

دكتور!!
دكتور!!
حركة تزيد في بؤبؤ عينيها ..
دمعة هاربة من بين جفنيها ..
🌼🌼🌼🌼🌼🌼

استيقظت، بدون الورم الذي هضم ذاكرتها بداخل أحشائه.
ظلت تتسائل؟؟
من أنا؟؟
تلتفت حولها، علها تتعرف على شيء من الماضي، لا شيء سوى فراغ معتم بداخل رأسها، فتقع بنظرها على ذلك البرواز يضيء، يزيد من نبضاتها ثائراً على وحدتها.
أ أنتم ذلك الماضي؟
كيف سمحت لكل بسمة، كل قبلة، كل لحظة قضيناها معاً أن تضيع؟!
أ أحببتموني بهذا القدر الذي يجعل قلبي متعلقاً بكم، يا من لا أتذكر عنكم شيئا؟!
حفظت ملامحهم جميعاً.
قبضت بكفها على صدرها.
ودعت ذلك البرواز، تركته خلفها، ثم استعادت أهليتها مع البدايات الجديدة، لكن ظلت تلك العيون تناديها من داخل البرواز الخشبي وتأسرها، بأصفادٍ من حنين.

مي عبدالحميد
السودان...............٢٨سبتمبر٢٠٢٠

L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan
L’image contient peut-être : 2 personnes, gros plan

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق